يبقى الحقيقيون يتعثرون فى خطواتهم ليس لأنها غير سوية ولكن لأنها غير محسوبة ولا مدروسة ولا متقنة النفاق ومحبكة التفاصيل حتى بالثانية وبشكل دقيق الحسبة، حتى لا تختلف النتائج عن المرسوم... يكرههم الكثيرون لأنهم لا يستطيعون أن يضعوهم فى إطار أو مربع أو أن يعلبوهم كما هو الحال مع الكل، وفى ذلك استسهال شديد من قبل الأغلبية إن لم يكن الجميع.. الأسهل أن تكون فى مربع مع الآخرين أما أن تكون أنت كما أنت؛ فذلك يتعب الكثيرين وأكثرهم طبعا المنافقون الراسمين للحظات بالمسطرة والقلم الرصاص حتى يستطيعوا أن يغيروا «السيناريو» إذا ما استدعى الأمر وبشكل سريع.
الحقيقيون لا مكان لهم فى المؤسسات العتيقة المترهلة وقليلا منهم يجدون مكانا لهم حتى فى مؤسسات المجتمع المدنى؛ فحتى هذه أصيبت بداء النفاق المزمن والتخطيط والمخططات الخاصة جدا ذات المصالح الضيقة أيضا، البعيدة عن وجع الناس وآلامهم أو حتى فرحهم الحقيقى.. الحقيقيون يبقون هم الأكثر عرضة للمضايقات والتنكيل بهم والمؤامرات المنقوعة فى السم.. هم الذين يتحملون الأسئلة المتكررة عن تفاصيل تبدو لهم عادية ولكنها للآخرين غريبة؛ لأنه وفى نظر الكثيرين أصبح الحقيقيون موتى فى مقابر الحياة الحديثة جدا ذات المصالح والنصائح التى تكرر «ابحث عن مصلحتك وارسم خططك حتى فى أدق التفاصيل والقرارات المرتبطة بقلبك».
***
عكسهم حتما من يخيطون التفاصيل قبل أن يعلن النهار إشارة البدء، ويرسمون مظاهرهم كما هى جزء من الصورة العامة المراد أن تخلق انطباعا خاصا.. ربما الذكاء والمعرفة أو الخبرة الخاصة التى لا يملكها أحد أو حتى الطيبة والسذاجة الخادعة أو المحبة للآخرين وهى بالطبع مرسومة ضمن المخطط الأول الذى يتبدل سريعا حسب التحولات فى الأيام والتغيرات فى الأشخاص.. هم الأكثر وهم من يحملون الكثير من الحقد على الحقيقيين.. يكرهون صدقهم وصفاءهم ومباشرتهم وقلة حيلتهم فى التلون حسب الموقف.. يكرهون صراحتهم حتى لو أدت لفقدانهم الكثير من المزايا أو ربما الفرص.. يموتون غيظا ولكنهم يكتمون ذلك تحت تلك الابتسامة المرسومة بإحكام نادر إلا عندهم.. يتقنون فن الضحك على الذقون ويعرفون أنهم سينتصرون حتما لأنهم الأكثر فى هذه الأيام.
تعج بهم المؤسسات وخاصة الكبيرة المتضخمة.. يصلون إلى المناصب العليا بكثير من التخطيط المحكم أو عبر معرفة من أين «تؤكل الكتف» وكيف تصل بأسرع الفرص إلى المناصب.. يلهثون خلف المنصب أو المال ولا ثالث لهم سوى رفيق درب هو الآخر قد يكون أحد جسور العبور الكثيرة وما إن تنتهى مهمته أو مهمتها حتى تنتهى هى وتخرج من حياتهم.. لا مساحات لحب حقيقى ولا لصداقة غير مدروسة بتمحص ودقة.
***
يبقى الحقيقى يبحث عن مكان آمن فقط فيما كل الآخرين يلهثون خلف المناصب.. يتلعثم الحقيقى أحيانا عندما لا يكون على يقين تام بالإجابة فيما عكسه.. يعطى الإجابات تباعا دون ذرة إحساس بالذنب القادم من بقايا الكذب أو التلفيق أو أن بعض شرحه وكلامه قد تنتج عنه قرارات مصيرية ربما ــ فقط ربما ــ تكون كارثية على مجموعات وليس أفراد فقط.
يقول الحقيقى: «لا أعرف ولكن أعدك أن أبحث عن الإجابة» فيما يردد عكسه مباشرة ــ حتى وإن كان بعيدا كل البعد عن المعرفة ــ بأنه يملك هذه الإجابة، وكل الإجابات عن كل الأسئلة ليست نتيجة لثقة زائدة ولكن لمحاولة الاستمرار فى رسم صورة ما لا تسقط أبدا؛ لأنها الخدعة التى تنطلى فى الكثير من الأحيان على شديدى الذكاء.
إذا ما أخذ الحقيقى قرارا خطأ يتراجع ويعتذر بل ربما يصاب بحالة من القلق المزمن فيما عكسه يصدر القرارات تباعا بما لها من تبعات مادية وانعكاسات على مجموعات واسعة ولا يرف له جفن، بل ربما يردد أنه «القضاء والقدر» ولا اعتراض عليه!
الحقيقيون عندما يتدينون يعرفون أن الدين معاملة فيما الآخرون يمارسون دين المظهر والكلام الفصيح.. الحقيقى لا يستطيع أن يخبأ امتعاضه من أمر ما قد لا يكون مرتبط به ولكن به ظلم لآخرين... لذلك يعاديه الكثيرون ويكرهونه لأن فى نقائه استفزازا لهم؛ ولأنهم تصوروا بأنهم قد نشروا ثقافتهم حتى أصبحت تدرس فى الكليات العليا فى الجامعات ومراكز الأبحاث أيضا بل عملت عليها نظريات!
***
الحقيقى يعمل فى النور وتحت الضوء الساطع والآخرون لا يعرفون العمل إلا فى الغرف المغلقة وفى ظلمة الممرات الضيقة.. يتساءل الحقيقى: «ماذا فعلت ليتطاولوا علىّ ويتكالبوا جميعهم ضدى؟» دون أن يدرك أن نقاءه يفضح لوثهم وصدقه وحقيقته تعرى «فذلكتهم» الكلامية وتصرفاتهم التى تبدو أقرب للتاجر المحترف الشاطر الذى يروج لبضاعته حتى ولو كانت مضرة أو فاسدة وهو فى ذلك لا يحيد عما يدرس فى الكليات المتخصصة؛ إلا أن الحقيقى لا يستطيع استيعاب استخدام أساليب الترويج التجارية أو كذب البياعين الصغار فى الحديث عن الفقر والبطالة والحروب القاتلة.
يذرف الحقيقى دمعة غصب عنه عندما يتحدث عنه أحد وهو يخجل من أى إطراء بينما الآخر يدعى الامتعاض من المديح فيما هو منهمك فى داخله فى فعل الفرح المزيف. تأتى النصيحة تلو الأخرى للحقيقيين أن لا تخلقوا أعداء أنتم فى غنى عن عدائهم، فيرددوا هم ولكننا لا نعاديهم فما الذى نفعله فيستفز نفاقهم!
يضع الحقيقى المصلحة العامة فوق مصلحته الصغيرة والضيقة، فلا منصب يحلو له لو جاء على حساب قناعاته ومبادئه.. فيما يضحك الآخرون من خطابه هذا حتى القهقهة؛ ففى رأيهم فقد دفنت القناعات والمبادئ والقيم مع مبتكريها والمروجين الأولين لها.
***
الحقيقيون لا مكان لهم بيننا ــ قال هو وقالها قبله كثيرون ــ لا أحد يعرف أن هذه البساطة ليست غلاف مصطنع بل قناعة داخله؛ فيتحول الحقيقى إلى مصدر للشبهات والحذر ويستمرون هم الآخرون فى التقرب ونشر ثقافتهم بين صغار النفوس وصغار الكتبة ومبتدئى التسلق والتدحرج للأعلى!
الحقيقيون يبحثون عن من يشبههم فتسرقهم الفرحة الأولى من اكتشاف الحقيقى الآخر حتى ينكشف أنه ليس إلا هو من أولئك الأكثر ذكاء وقدرة على إخفاء حجم الزيف والنفاق وربما الكذب وكثرة الكلام المفذلك والمعلب مع قلة العمل الحقيقى المتعمق.
حقا لا مكان للحقيقيين كما قال هو.. لا مكان لهم.