صادفت هذا الأسبوع الذكرى المئوية لميلاد الموسيقى العملاق فريد الأطرش، واحتفلت به أداة البحث جوجل فوضعت صورته ونبذة عنه على صفحة البحث، حكيت لأطفالى عن فريد الأطرش من ضمن محاولة مستمرة منى بالإبقاء على مرجعيات ثقافية أريدهم أن يعرفوها ويفهموا مصدرها، كأن أصر مثلا على أن يأخذوا دروسا فى رقصة الدبكة التى تنتشر فى بلاد الشام، لا يفهم أطفالى إصرارى على أن يتعلموا أشياء لا يروها فى محيطهم المباشر ولا تعد مرجعا فى حياتهم، ها أنا إذا أحكى لهم عن فريد الأطرش وانتقاله إلى مصر حيث استطاع أن يحقق مسيرة فنية ونجاحا جماهيريا بفضل موهبته فى المقام الأول إنما أيضا بفضل المساحة التى أتاحتها مصر فى ذلك الوقت للفنانين لكى يكتشفوا المسرح والشاشة.
***
يسألنى الأولاد بدهشة عن فرق بلد عن آخر من حيث توفير أجواء تساعد الفنانين على الانطلاق فأشرح بحذر وجود أولا إمكانيات مثل استوديوهات للتصوير ومدارس للموسيقى والمسرح والأهم من ذلك وجود هامش من الحرية يتحرك فى داخله الفنان ليعبر عن نفسه، أخيرا أحاول أن أشرح فكرة وجود جو عام يشجع على التعبير والإبداع والمنافسة فى الإنتاج، فأقول إن كثيرا من الكتاب اتخذوا من لبنان مكانا ينتجون منه أدبا وفكرا وكثيرا من الموسيقيين والممثلين سكنوا القاهرة فى أيامها الذهبية بحثا عن فرص للنجومية.
***
أدندن أغنية عبدالحليم حافظ «أسمر يا اسمرانى» فتلمع عينا ابنى الأكبر ويقول إننى كنت أغنيها له فى سنواته الأولى حين أكدت له أن عينيه أجمل عينين، أفرح جدا أنه تذكر الأغنية وأنها ارتبطت فى عقله بنوع من التعبير عن حبى له، كنت أغنيها له حين كنا نعيش بعيدا جدا وفى بلد لا ينطق بالعربية.
***
أفخر من قدرة أولادى الثلاثة بأن ينتقلوا دون جهد من اللهجة السورية التى يستخدمونها معى إلى التحدث باللهجة المصرية مع زوجى المصرى، أعى أن اللغة التى يستخدمونها تكاد أن تخلو من مراجع ثقافية ومجتمعية كانت بالنسبة لى ثابتة، عبدالحليم حافظ وليلى مراد والسينما المصرية وفيروز ومن بعدها أم كلثوم؛ حيث استسغتها على كبر وليس فى الصبا، أو رقصة الدبكة والإشارة إلى مناطق كالجبل فى لبنان، أى جبل، أو الحارة فى دمشق أو الإسكندرية، كلها أمور كنت أظنها ثابتة أشير إليها فى أحاديث مع أطفالى لأتفاجأ بعيون متسائلة تنظر إلى.
***
موضوع تغيير المرجعيات المجتمعية والثقافية خصوصا فى الطبقات الوسطى فى المنطقة يشغلنى كثيرا وأجد نفسى أحاول طوال الوقت أن أُدخل فى حياة عائلتى اليومية قصصا وأسماء ربما لم تعد تعنى شيئا بالنسبة لجيل اليوم، لا أعرف كيف تَشَرَب جيلى وبشكل أظن أنه كان طبيعيا أسماء نجوم السينما والأغانى القديمة وألعاب شعبية رغم أنها من جيل سبقنا، وها أنا أجد نفسى أبذل جهدا خاصا حتى يكتسب أولادى ثقافة فنية ومجتمعية لم تعد جزءا من ثقافة جيلهم.
***
أقول لابنى إن فريد الأطرش من جبل الدروز فى سوريا فيسألنى عن معنى كلمة «دروز»، أشرح له كما أستطيع عن سحر طائفة معروفة بعمق أسرارها وجمال أرواح ناسها، أصف له بيوتا كريمة مفتوحة للضيف وشيخا يلبس الشروال التقليدى فى عينيه الخضراوتين عمق يسحبنى إلى دواخل نفسه دون أن ينطق بكلمة، أحكى لابنى عن قرى تربتها خصبة وجبالها لونها أخضر فيستمع إلى دون أن تكون عنده أى ذاكرة بصرية أو حسية كتلك التى اكتسبتها أنا من خلال زيارة أصدقاء فى منطقة السويداء فى سوريا أو الشوف فى لبنان.
***
أظن أننى أقسو قليلا على عائلتى فى محاولاتى الدائمة أن أجعلهم يحبون ما أحب أو بعضه. أظن أننى أريدهم أن يفهموا مكانة عبدالوهاب وأسمهان فى الوعى الجماعى لجيلى إنما أكثر للجيل الذى سبقنى. أريدهم أن يعرفوا أن بلادهم ليست ما يروه اليوم من تفتت وموسيقى جلها ردىء وكلمات بذيئة أصبحت دارجة. أقول لهم هذا وأنا أعى تماما أننى انتقلت إلى خانة القديم وأن كثيرا مما أوصى به قد يرونه على أنه مضى، أظن أن فى محاولتى أن أحافظ على كلمات وأغانٍ وعلاقة خاصة بزمن مضى فأنا أحاول أن أبقيها جميعها حية من خلال الممارسة. أريد أن أسمع بعض الكلمات وأن يدندن أولادى أغانى لم تعد تظهر سوى على فقرة الذكريات فى راديو الذكريات.
***
أشعر أننى بدأت أصلا بالانتقال إلى فقرة الذكريات. أنا همزة وصل بين جيلين. ما زلت أمسك بيد أبى وهو يدخل إلى محل لبيع تسجيلات الموسيقى فيخرج منه وهو يكاد أن يطير بدل أن يمشى على الرصيف لأنه حصل أخيرا على تسجيل نادر لحفلة من حفلات صباح فخرى عملاق الموشحات الحلبية. وأمسك باليد الثانية بثلاثة أولاد أريدهم أن يحفظوا أغنية فوق النخل حتى لو تعرفوا عليها بنغماتها الحديثة التى تبناها فنان عصرى. المهم أن يفهموا أن فى العراق بساتين من النخيل لا تنتهى وخيرات وأنهار وكلمة «تتدللى» حتى لو لم يلتقوا بأصدقاء عراقيين.
***
أنا همزة وصل أتعب أحيانا من التمسك بالماضى إلى أن تلمع عينا ابنى السوداتين ويتذكر أغنية «أسمر يا اسمرانى» من طفولته فيذوب قلبى وأواصل مهمتى كفقرة الذكريات فى حياة أولادى.