تقول العالمة الكبيرة دونلا ميدو فى مقالها المهم للغاية «النقاط الروافع» أن تأثير العوامل غير المادية على سلوك المنظومات ربما كان أكبر من تلك المادية. ودونلا ميدو أحد أربعة علماء أعدوا واحدا من أهم التقارير فى تاريخ البشرية والمعنون بـ«حدود النمو» فى العام 1972 والذى يحذر من كارثة كبيرة فى حال استمرار البشر فى استهلاك مواردهم على النحو المرصود فى ذلك الوقت. وبعده تواترت التقارير لتؤكد فحوى هذا التقرير وآخرها فى أغسطس الماضى للجنة الدولية للتغير المناخى. ولكن هل ما سبق له علاقة بالتاريخ؟ وهل التاريخ كما يبدو للكثير هو مجموعة من الآثار المبنية العظيمة أم هو غير ذلك؟ وكيف ننظر له ونفهمه؟ هل التاريخ حافز أم عائق أمام التنمية والازدهار؟ وهل يمكن فهم حاضرنا بدون معرفة كافية بالتراث والتاريخ؟ وما نوعية تلك المعرفة هل هى نظرية أم مرتبطة بالخبرة والحواس؟
•••
من خلال تدريس تاريخ العمران فى جامعة القاهرة اعتمدنا على فرضية تتبنى أنه يمكننا قراءة التاريخ وفهمه بصورة أفضل من خلال دراسة ارتباطاته وتأثره بالطبيعة. وركزنا بصفة خاصة على رؤية التاريخ من خلال نهر النيل الذى مر بالعديد من التحولات الكبرى والمركبة التى تفاعلت معها المجتمعات والأجيال فى مصر على مر العصور، ووصلنا لما نراه ونعرفه اليوم. جانب آخر من النقاشات التى تهمنا فى هذه التجربة مرتبط بفهمنا للزمن وهل هو ثلاث حالات؛ ماضٍ وحاضر ومستقبل، أم حالة واحدة متصلة؟ وتساءلنا دائما عما إذا كان الفهم المتصل للزمن يمكن أن يساعدنا فى توجيه تفكيرنا ليكون طويل الأمد بدلا من التركيز على ما نفهمه كقريب منا بينما نتجاهل التحديات التى تواجه أولادنا وأحفادنا.
ننظر دائما للمناطق التاريخية كجاذب رئيسى للسياح، ولكن هل يمكن تخيل مساهمة لتلك المناطق أكثر إبداعا لدعم النمو المتجدد لبيئاتها؟ هل يمكن مثلا أن تصبح المتاحف بالتوازى مع كونها مزارا أن تكون أيضا مكانا يعمل على دعم عملية مستمرة وفعالة لتبادل المعارف فى المجتمع المحلى؟ فى الخريف الماضى قام أحد طلابى بعمل تصميم أولى رقمى يمكن من خلاله تخيل وضع حصن بابليون فى زمن إنشائه عندما كان الماء يصل لحافته. ويمكن من خلال تطوير مثل هذا التطبيق وإتاحته من خلال المنصة الرقمية للمتحف أن يكون أداة تعليمية مهمة للتلاميذ فى أماكن أخرى عديدة كميت رهينة وغيرها. كما يمكن البناء عليه وإتاحة تطبيقات أخرى تهتم بمواضيع أخرى كالزراعة والفن مثلا.
وكانت تلك التقنية الرقمية وما تستطيع أن تسهم به فى ميت رهينة محل تساؤل ونقاش فى الربيع الماضى مع طلبتى القادمين من دول شتى وتساءلنا بصورة أكثر تحديدا عن فكرة المنصة الرقمية وهى فكرة ليست جديدة تماما. وتتخذ المنصات الرقمية أشكالا عدة طبقا لنموذج الأعمال المستخدم والغرض المحدد التى تستهدفه. ومن أمثلة المنصات الرقمية الناجحة فى ناحية وسائل التواصل الاجتماعية فيسبوك وتويتر وانستجرام ولينكد ــ إن أما على مستوى المنصات المعرفية فهناك ستاك اوفر فلو وكورا وياهو انسرس. وعلى مستوى مشاركة الوسائط يوتيوب وعلى مستوى الخدمات هناك اوبر وايربى انبى ويبقى السؤال هل يمكن استلهام تلك الفكرة فى دعم التحول لبيئة متجددة فى ميت رهينة.
•••
المنصة الرقمية فى عالم الأعمال هى ما يمكن التفكير فيها كمكان لتبادل المعلومات والبضائع والخدمات بين المنتجين والمستهلكين وأيضا مع المجتمع الذى يتفاعل مع هذه المنصة. ومن المهم أن نفهم أن المجتمع بحد ذاته هو جزء رئيسى من هذه المنصة وأنها بدونه ليس لها إلا قيمة قليلة للغاية. ومن صفات المنصات الرقمية الناجحة سهولة الاستخدام من قبل المستخدمين، أيضا تحقيق الثقة والأمان من خلال شروط استخدام تحفظ الخصوصية وحقوق الملكية الفكرية وملكية البيانات. كما تمكن من التبادل بين المستخدمين منتجين ومستهلكين وأخيرا توفير قيمة للمجتمع تتناسب مع حجم المجتمع، فكلما كبر المجتمع كبرت القيمة المضافة للجميع. فهل يمكن لإشراك الجميع عن طريق الرقمنة تحسين حياة الناس والترويج للنمو المتجدد.
منذ 2020 دفعت كورونا العملية الرقمية إلى آفاق ونطاقات جديدة وتمكنت التقنية الرقمية من إشراك الجميع فى عدة تجارب بدول مختلفة نظرا لما توفره من سهولة فى التواصل مقارنة بالتواجد الشخصى والمناقشات المجهدة للغاية التى تدور خلال الاجتماعات العامة. وتحقيق الشمول الرقمى خاصة فى المناطق الريفية هو تحدٍ كبير ربما يجب التعامل معه بصورة تدريجية تبدأ بمن لديهم معرفة ولو مبسطة مثل التلاميذ والشباب ولكنها يجب أن تشمل لاحقا الجميع وخاصة النساء، وربما كانت قصة سونيا فالاداريس مع السيدات فى ريف إسبانيا وتعليمهن كيف يستخدمن الحاسب المحمول على امتداد خمس سنوات ذات صلة بنا. فهى لا تزال تتذكر أول مرة ساعدت فيها مجموعة من النساء لاستخدام الحاسب الآلى وذلك بأن طلبت منهن أن يكتبوا وصفة للأومليت بالطريقة الإسبانية باستخدام إحدى برامج الكتابة. كانت النسوة فى البداية خائفات حتى من لمس الجهاز خوفا من إتلافه. ومع نهاية الورشة كن متحمسات لعمل نفس الشىء مع كل أنواع الوصفات.
علينا أن ننشئ ونستخدم المنصة الرقمية بصورة تستجيب لاحتياجاتنا وظروفنا، وكما توصلنا من نقاشاتنا فإن المنصة الرقمية التى تتخذ من المتحف مقرا لموقعها على الشبكة ستركز أساسا على تبادل المعلومات والمعارف التى تدعم التعليم والصحة وستستهدف فى ذلك تلاميذ المدارس المحلية أساسا. كما ستخصص جزءا لتعليم الكبار والتعليم الذى يهدف إلى اكتساب مهارات جديدة بما يساعد الشباب على التحول من مهنة إلى أخرى. وتستهدف أن نشرك زوار ميت رهينة من الأجانب فى هذا النشاط والذى سيساعد فى دفع وتشجيع السكان المحليين والشعور بالدعم لحياتهم مما سيؤثر بالتأكيد على إحساسهم بأن هذا المكان لهم وهو مسئول منهم. وسيكون أمناء المتحف والمدرسون من المدارس المحلية من الأعضاء العاملين والفاعلين فى تلك المنصة والقائمين على إدارة أنشطتها ربما بمشاركة ودعم من منظمات مثل اليونسكو والفاو حيث تخدم تلك المنصة أهدافها الرئيسية فى الحفاظ على الآثار ونشر الثقافة والوعى وأيضا تضمين المعارف والممارسات التقليدية ذات الصلة فى الممارسات المستدامة المعاصرة خاصة فى إنتاج الطعام واستخدام المياه الرشيد.