قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب التمديد للمرة الأخيرة لتجميد العقوبات الاقتصادية على إيران بغية إعطاء فرصة أربعة أشهر لإصدار اتفاق ملحق يسد ما يعتبره ثغرات لمصلحة إيران فى الاتفاق النووى أو ما يعرف باتفاق (٥ + ١). فيما تقول إيران إنها تتمسك بالاتفاق كما هو، وترفض كليا فتح باب التفاوض حوله، يمهد لأزمة خطيرة لا تعرف نتائجها فى شرق أوسط ملىء بالأزمات المتفجرة. يمثل هذا القرار بشأن ما يعتبره ترامب أسوأ اتفاق فى تاريخ الولايات المتحدة، نموذجا صارخا بما يعرف بسياسة حافة الهاوية.
الرئيس الأمريكى يضع شركاءه فى الاتفاق، الدول الأربع الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن ومعهم ألمانيا، فى وضع صعب، وهو وضع محرج تحديدا لحلفائه الغربيين، فرنسا وبريطانيا وألمانيا. إنها سياسة قلب الطاولة على الجميع دون أن تعرف نتائج ذلك. فحلفاء الولايات المتحدة الثلاث، وخصومها الاثنان، روسيا الاتحادية والصين الشعبية، كلهم متفقون على التمسك بالاتفاق. الاتفاق الذى صار وثيقة رسمية دولية مع صدور قرار مجلس الأمن (٢٢٣١ ) الداعم له.
انسحاب واشنطن، فيما لو حصل، لا يلغى الاتفاق بالطبع، ولكنه يزعزع الاتفاق سياسيا من خلال ازدياد التوتر والتشنج والصدام على الصعيد السياسى. كما يساهم ذلك دون شك فى زيادة مستوى الصراع وحدته فى الأزمات القائمة فى المنطقة.
جملة من الأسباب تقف وراء قرار ترامب وهى:
أولا: سبب سياسى داخلى قوامه ضرب وإسقاط كل ما أنجزه سلفه الرئيس أوباما الذى يعتبره ترامب نقيضه سياسيا فى جميع المجالات والشئون الداخلية والخارجية.
ثانيا: حالة العداء السياسى والاستراتيجى الحاد التى يحملها ترامب تجاه إيران ودورها وسياساتها فى المنطقة، ولو كانت هنالك لحظات انفراج فى تلك العلاقات كما رأينا لحظة محاربة دولة «داعش» فى سوريا وفى العراق.
حالة تقوم على المواجهة مع إيران ينعكس ذلك فى تشجيع ترامب ودفعه للمواجهة العربية الإيرانية القائمة التى أنتجت حربا باردة إقليمية تعزز البؤر الساخنة فى المنطقة وتزيدها حدة واشتعالا.
ثالثا: فى ظل هذا العداء المستحكم مع إيران يأتى الاتفاق ليضع واشنطن فى موقف مرتبك ودفاعى، إذ يسمح لإيران بتطبيع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع القوى الغربية بشكل خاص مع ما لذلك من انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الإيرانى مع رفع العقوبات وفتح الأسواق للتجارة وجذب الاستثمارات، وبالطبع على قدرة إيران فى إعادة تطبيع علاقاتها الدولية والاستفادة من ذلك.
والمثير للاهتمام أن ما سمى ببداية الربيع الإيرانى تأثر بوعود الرئيس روحانى بتحسين الوضع الاقتصادى الاجتماعى للشعب الإيرانى مع وقف العقوبات وإنجاح الاتفاق النووى، فى حين أن ما حصل مع بدايات الانفراج الاقتصادى هو أن مجمل ميزانية ٢٠١٨ قد ركزت على دعم وتوظيف «المال الإيرانى» فى توفير مزيد من الدعم للسياسات الإيرانية فى المنطقة بدلا من الاهتمام بمعالجة المشكلات الاقتصادية الاجتماعية الحادة والمتزايدة فى البلد.
رابعا: شجع ترامب على سياسة قلب الطاولة منطق الأحادية الحادة الذى يطبع سياساته الخارجية، إذ لا يأخذ ترامب بعين الاعتبار الالتزامات الدولية أو مواقف ومصالح الحلفاء الأساسيين أو أيضا الحفاظ على تعاون أو تفاهم قائم فى مجال دولى أساسى مع الخصوم التقليديين مثل روسيا الاتحادية وروسيا الشعبية.
ترامب يريد اتفاقا أفضل حسب شروطه ورؤيته ضاربا بعرض الحائط نحو ثلاث عشرة سنة من المفاوضات التى لم تكن سهلة، وكانت متعثرة لفترات طويلة، وكذلك ضاربا بعرض الحائط فلسفة الاتفاق التى تقوم على تجميد النووى الإيرانى ولو لفترة محددة. يهدف ذلك بالطبع إلى دفع إيران عبر سياسة الجزرة لإسقاط الخيار النووى نهائيا كون انخراط إيران فى عملية تسلح نووى ستؤدى دون شك إلى سباق تسلح مفتوح فى الشرق الأوسط، وإلى ازدياد التوتر فى المنطقة، خاصة أن الحرب ليست خيارا عقلانيا أو واقعيا لمنع إيران بالقوة من بناء قدراتها النووية فيما لو قررت اتباع نموذج كوريا الشمالية.
الخلاف الغربى مع إيران يتمحور حول نقاط ثلاث:
أولا: المسألة النووية
قد جاء الاتفاق النووى ليعالج هذه المسألة الاستراتيجية الحيوية عبر مسار احتواء هذه العملية، ودفع إيران نحو التخلى الكلى عن السلاح النووى. والخوف اليوم، بدلا من العمل على إنجاح هذا النموذج ليكون نموذجا لكوريا الشمالية التى هى قوة نووية حاليا، فإن السياسة الأمريكية الجديدة ربما تدفع إيران فى نهاية الشوط إلى اعتماد نموذج كوريا الشمالية وليس العكس.
ثانيا: تطوير إيران لمنظومة صواريخ باليستية، وهذا أمر ذو تداعيات استراتيجية عسكرية خطيرة فى المنطقة تهدد التوازنات القائمة. وسياسة ترامب بإسقاط الاتفاق النووى كما هو قائم لا تساعد محاولة تسوية مسألة الصواريخ البالستية، لا بل إنها تزيد هذه المسألة حدة وتصعيدا.
ثالثا: التمدد الإيرانى وتوسيع النفوذ الإيرانى فى المنطقة وهو يشكل محور الصدام الإقليمى والحرب الباردة المتصاعدة التى تقتات على الحروب الساخنة القائمة فى نقاط مختلفة وتغذيها. وإعادة فتح الملف النووى لن تساهم فى مواجهة السياسة الإيرانية فى المنطقة فى إضعافها أو حصارها فى النقاط الساخنة.
إن الاتفاق النووى مع إيران لا يعنى أبدا إعطاء ضوء أخضر لإيران فى ما يتعلق بسياساتها الإقليمية لا بل يفترض أن يشجع على التفاهم والتعاون فى المجالين الآخرين، الباليستى والإقليمى، فيما انفجار الصراع مع ايران وازدياد التوتر،كما تهدد بذلك سياسة واشنطن، سيجعل إيران اكثر تمسكا وأكثر حدة فى سياسة المواجهة خاصة فى ظل غياب أى توافق دولى داعم للسياسة الامريكية.
وحدها سياسة الانخراط الحازمة مع إيران، السياسة التى تقوم على مزيج من العصا والجزرة، كما يقال، وذات المقاربة الشاملة لكل المسائل فى المنطقة حيث هناك نقاط صدام مع إيران، وحدها تلك السياسة يمكن أن تساهم فى إعادة الاستقرار إلى الإقليم.
فإذا لم يكن الاتفاق النووى بمثابة ضوء أخضر كما يحاول أن يصوره البعض بالنسبة لإيران لإطلاق يدها فى المنطقة، فلا يجوز أيضا أن يحوله الرئيس الأمريكى إلى ضوء أحمر ضد احتمالات الانخراط فى سياسات مع إيران بغية الوصول إلى تفاهمات إقليمية دولية حول قضايا المنطقة ونقاطها المشتعلة وبالأخص سوريا واليمن والعراق ولبنان. صحيح أن هذا ليس بالأمر السهل ولكن سياسة المواجهة التى يتبعها الرئيس الأمريكى ستجعل التوصل إلى تفاهمات شاملة أمرا مستحيلا.