يعرف الكثيرون أن د/سليم العوا محكم دولى شهير وأستاذ قانون دستورى ضليع، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون عن د/العوا أنه من المجددين فى الفقه والفكر الإسلامى، ويتمتع بموسوعية فقهية كبيرة، وهو أصولى متمرس وفقيه متمكن من أدواته، فقد تعلم على يد نخبة متميزة من الفقهاء والأصوليين منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ بدران خليل أستاذ الشريعة الإسلامية بالحقوق حيث تعلم منه اتساع أفق المنهج الفكرى للفقهاء حيث كتب عن مسائل الزواج والطلاق عند غير المسلمين، وتعلم منه تعارض الأدلة وكيفية التعامل معها.
كما تعلم على يد الشيخ مصطفى خفاجة عدم التعصب للمذهب الفقهى مع احترام مذهبه، وتعلم من الشيخ الشركسى وكان تركى الأصل كيف يعترف بخطئه أمام التلاميذ، حيث صوب له العوا وهو طالب بالحقوق مسألة أمام الطلاب وأصر كل منهما على رأيه حتى أقرأها الطالب العوا لأستاذه فى الكتاب فاعترف الأستاذ أمام تلاميذه بالخطأ.
كما تعلم من صهره ووالد زوجته/ حسن العشماوى كيفية التأتى للأمور بحكمة وأناة وترفق، وكذلك تطبيق فقه المصالح والمفاسد وحكمة الشيوخ فى الحياة العامة والخاصة، وهو الذى نقله من حماسة الشباب المتدفقة إلى مرحلة الحكمة والأناة والتلطف وحسن التأتى للأمور والذى يعتبره العوا من أهم ما يحتاجه المسلم عامة والدعاة خاصة.
ومن أساتذته الشيخ/ محمد مصطفى شلبى رئيس قسم الشريعة الإسلامية بحقوق إسكندرية صاحب كتاب «الفقه الإسلامى بين المثالية والواقعية «وتعلم منه د/ العوا إنكار الذات وهضمها، وخاصة حينما سرق أحد الطلاب كتابه هذا ولخصه ونشره باسمه فى مجلة العربى الكويتية ذائعة الصيت، فعلم د/شلبى وقتها من د/العوا فحزن واغتم ولكنه سأله كم نسخة تطبع من هذه المجلة؟ قال له: قرابة مائة ألف؟ قال: كم يقرأون العدد الواحد؟ قال له: عشرة تقريبا فقال لتلميذه العوا: فائدة العلم أن ينتفع به، كتابى الأصلى يقرأه مائة أو مائتان من الخواص، أما هذا فينتفع به مئات الآلاف فلا تحزن، ولم يحرك ساكنا، ورفض أن يرفع قضية على الذى سرق الكتاب.
لقد كان د/ العوا نعم التلميذ مع كل أساتذته ويذكرهم جميعا بكل خير ويدعو لهم، لأنه صحبهم صحبة التلميذ القريب المحب.
أما المعلم الأساسى له فهو والده الذى تعلم منه فقه التدين وفقه الحياة معا، وتعلم منه كيف يتوسط فى النزاعات وكيف يحلها بأيسر السبل، وكيف يكرم ضيوفه، وهو أول من تعلم منه أن الفقه الإسلامى لا يبيح التعددية الفقهية فقط بل والتعددية السياسية أيضا، وأن التعددية لا تنبت من فراغ ولكنها تنشأ مع الإنسان منذ نعومة أظفاره وفى بيته ومدرسته ومع شيوخه وبين تلاميذه، إنه قدر البشرية الجميل الذى يثرى الحياة ويجعلها تكتسى بألوان الطيف الممتزجة المتكاملة.
لقد رباه والده على معرفة الدليل الفقهى على كل أمر والبحث عنه والتقصى بشأنه.
لقد أدرك منذ نعومة أظفاره أن الأسرة السوية والحياة الاجتماعية الصحيحة والطعام الحلال والأب الحكيم والأم الرءوم هى المنطلق الحقيقى لبناء العالم والفقيه المتزن.
يعد د/ سليم العوا من المجددين فى الفقه الإسلامى ومن الذين أحسنوا الجمع بين النص الشرعى والواقع العملى ربطا صحيحا ومن الذين أحسنوا قراءة النص الشرعى قراءة صحيحة، والواقع العملى قراءة متأنية دقيقة.. وكلنا يعلم أن أزمة الحركات الإسلامية المستعصية بعضها يكمن فى القراءة الخاطئة للنص الشرعى، وبعضها يكمن فى القراءة الخاطئة للواقع العملى.. وبعضها يخطئ فى إنزال هذا على ذاك.
ولعل أهم إسهامات د/ العوا فى تجديد الفقه الإسلامى ما يلى:
أولا: إضافة مقاصد جديدة للشريعة: من أهم القضايا المهمة التى كان للدكتور العوا النصيب الأكبر فى التجديد الأصولى والفقهى فيها هو إضافته العميقة والقيمة لمقاصد الشريعة الخمسة.. فكلنا يعلم أن الفقهاء القدامى ذكروا خمسة مقاصد فقط للشريعة الإسلامية.. وعلى رأس هؤلاء الفقهاء العظام الأب الروحى لعلم المقاصد الشرعية الإمام الشاطبى الذى نص مع غيره عليها، وهى«حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل».
والحقيقة أن أهم إنجازات د. العوا الفقهية، هو الإضافة مع غيره من الفقهاء إلى هذه المقاصد بما يتلاءم مع متطلبات هذا العصر الحديث.
يقول د/ العوا فى حوار أجراه معه فى لندن صديقى الأديب محمد عبدالشافى القوصى ما نصه: ومقاصد الشريعة تدور حول حفظ أمور خمسة، وهى حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.. ولكن هذه الأصول الخمسة ليست نهائية وليست قائمة محصورة.. ولكنها مفتوحة يمكن أن يضاف إليها إلى يوم القيامة من خلال النظر المتجدد فى أصول الإسلام من القرآن والسنة.. فهناك مقاصد جديدة يمكن أن نضيفها للمقاصد الخمسة.. ومنها مقصد العرض وليس المقصود به الشرف.. وإنما السمعة أيضا.. ومقصد العدل الشامل فرديا واجتماعيا، وكذلك مقصد الحرية وليس المقصود بها العتق من الرق كما كان يحدث فى صدر الإسلام.
والمقصد الجديد الذى يضاف إلى ما سبق ــ من وجهة نظرى ــ هو الحرية فى التفكير والتعبير والممارسة السياسية.. هذا بالإضافة إلى مقاصد أخرى مثل مقصد المساواة أو مقصد حقوق الإنسان.
ويردف العوا فى حواره: «وهذه القائمة التى بدأت بخمسة مقاصد، ويضاف إليها ما يستجد، تقوم على أن ما دخل فيها لا يخرج منها.. ومن هنا أطالب المشتغلين بالعمل السياسى بضرورة العمل لتحقيق المقصد الأسمى للشريعة الإسلامية وهو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه».
وبهذا يضيف د/ العوا إلى المقاصد الخمسة مثلها فى سبق أراه رائعا ولا يجسر عليه إلا أمثال العوا والزحيلى والزرقا ومصطفى شلبى والبشرى وكمال إمام وحسن الشافعى وغيرهم من المجددين فى الفقه الإسلامى المعاصر.
ولا أدرى كيف غفل الفقهاء القدامى عن مقصد العدل.. فبه وله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل وأقام الجنة والنار والميزان والحساب.. وما قامت الأمم والدول إلا بالعدل وما هلكت إلا بالظلم.. والعبد الفقير يعتبر أن العدل هو المقصد الثالث للشريعة الإسلامية بعد حفظ الدين والنفس.. هذا إن كان لمثلى رأى فى مثل هذه القضايا الشائكة.
وإذا كان الإسلام قد حرر الرقيق فهو جاء ليحرر الكون كله، ويطلق ملكات البشر شريطة ألا تؤذى حريتك حرية الآخرين أو تستلب أو تعتدى على حقوقهم.
وأعتقد أن مقصد الحرية من أعظم مقاصد الشريعة وأهمها.. والحرية التى يعنيها د/ العوا ومن سار فى ركبه من الفقهاء المحدثين هى الحرية بمعناها الشامل من الحرية فى التفكير والتعبير والممارسة الفكرية والسياسية.
أما مقصد المساواة فإنه سيحل إشكاليات قديمة كثيرة كانت فى الفقه القديم.. وكانت تحول بين تقدم الدولة الوطنية التى تساوى فى الحقوق والواجبات بين رعاياها.. دون أن يكون هناك رقيق أو جزية على المسيحيين أو اليهود أو غيرهم.. أو دون قبول الجنسيات أو المذاهب المختلفة فى الدولة.. فهناك دول مثل العراق أو لبنان فيها عشرات الأعراق والمذاهب.. فإن لم تتم المساواة بينهم حدث تمزق لهذه الدولة وتفتت كما يحدث الآن.. فالمساواة بين الناس أمام القانون هى التى جعلت دولة مثل أمريكا تحوى آلاف الأعراق والمذاهب والأديان لتذوب كلها فى بوتقة الدولة الوطنية الأمريكية التى تحفظ للناس حقوقهم فى مقابل أن يؤدى كل واحد منهم حقه، ولا يخل بالأمن أو يخرق القانون.
أما مقصد حقوق الإنسان: وهو مقصد جديد سيحل إشكاليات كثيرة تقع بين الدولة الإسلامية من جهة والمجتمع الدولى من جهة أخرى.. فعلى سبيل المثال ينص بعض الفقهاء القدامى على جواز تعذيب المشتبه فيهم حتى يقر بجرمه.. وهذا مخالف لأحاديث كثيرة صحيحة ثابتة تنهى عن التعذيب.. فضلا عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك أو يقره طوال حياته.. فحينما يضاف إلى المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية مقصد حقوق الإنسان عامة.. فإن ذلك سيحل إشكاليات كثيرة فى الحياة العامة وفى الفقه الإسلامى، وقد أحسن د/ العوا حينما أضاف هذا المقصد المهم، تحية لكل من يجدد ولا يبدد، فالإسلام يضيع بين جامد وجاحد فهذا يصد الناس عن الإسلام بجموده وهذا يصدهم بجحوده.