سقطت دولة داعش فى الموصل فيما تتعرض دولتها للحصار والتآكل وهى فى الطريق إلى السقوط فى الرقة أمام تبلور تحالف واسع، تحالف أمر واقع ولو بانخراط مختلف بدرجاته بين جميع القوى التى تحارب داعش على الأرض. تحالف فرضه الخطر الداعشى الذى غيّر من أولويات الجميع لمواجهة السرطان الإرهابى المنتشر والذى لا يعرف حدودا وطنية أو دولية. فقدت داعش القاعدة الجغرافية التى كانت توفر لها إمكانات كبيرة تنظيمية وتعبوية ورمزية ولكنها لم تنتهِ طالما أن روافد الداعشية من فكرية وثقافية وتعليمية وسياسية واقتصادية واجتماعية ما زالت قائمة وناشطة.
إن الأوضاع فى المنطقة، من تفكّك دول أو وهن أصاب دولا أخرى ومن انشطار مجتمعات على أسس هويات أصلية، مذهبية وغيرها، كلها أوضاع تشكل بيئة جاذبة وملائمة لنمو الفكر الداعشى. الفكر العدمى والخلاصى الذى يقوم على قطيعة مع الآخر وعلى الصدام المفتوح فى الزمان والمكان أيّا كانت انتماءات هذا الآخر الدينية والدنيوية.
***
قد تتحول داعش إلى بناء قاعدة لها فى ليبيا وفى اليمن مصطدمة مع القاعدة، باحثة عن أماكن تعيش فيها وتفتت الدولة الوطنية. وقد تنتقل إلى نوع من اللامركزية فى «الدول» التى ستحاول اقامتها كلما وجدت بقعة جاذبة لذلك. ومن المرجح أن تتحول داعش، وقد يسارع فى ذلك التحول سقوط الرقة، إلى اعتماد استراتيجية القاعدة القائمة على الجهادية الدولية. وقد بدأت هذه الاستراتيجية، كما دلّت عليها عملياتها الإرهابية فى أوروبا. تلجأ إلى ذلك من خلال الخلايا النائمة والذئاب المنفردة.
لكن الامتحان الأول، الامتحان ذا المصداقية والفاعلية فى محاربة داعش بغية إطلاق عملية استئصالها، وهى عملية لن تكون بالسهلة تتمثل فى النجاح فى بناء السلم المجتمعى والاستقرار الشرعى فى الموصل. الاستقرار القائم على التشاركية الكاملة والشاملة والحقيقية بين مختلف المكونات الاجتماعية فى العراق وذلك من منطلق وطنى فى الممارسة. منطلق يريد تعزيز الوحدة الوطنية التى انكسرت منذ حرب العراق عام ٢٠٠٣ وقيام نظام هيمنة مذهبية بعناوين مختلفة. إذا حاول طرف مذهبى الاستفادة من هذا الانتصار لتوظيفه فى مزيد من سياسات التمذهب ولو بغطاء يبقى شفافا ومفضوحا من خطاب وطنى جامع تنقضه السياسات على الأرض، فسيبقى انتصار الموصل نصف انتصار وسيؤدى إلى هزائم فى أماكن أخرى.
محاربة داعش تبدأ ببناء مشروع وطنى يشكل مرجعية ومثالا لكل ما هو نقيض داعش. نموذج يحقق المناعة الوطنية لهذه الدول الفاشلة أو التى هى فى طريقها إلى الفشل والتى تعيش حروبا أهلية وحروبا مختلفة. هو المدخل لا بل الشرط الضرورى لاستراتيجية تتسم بالجدية وبالمصداقية على مستوى الممارسة وليس على مستوى الخطاب فقط لاجتثاث الفكر الداعشى.
يتوجب إذن اعتماد مقاربة شاملة مترابطة الأبعاد وواضحة الأولويات. أهم عناصرها دون شك اعتماد مبدأ التشاركية السياسية الشاملة والعمل على إعادة تعزيز عملية الاندماج الوطنى بجميع عناصرها وبناء دولة المواطنة.
إن السياسات القائمة على التمذهب أيا كانت شعاراتها تعزز الداعشية وتبررها ولو بشكل غير مباشر، تبرر عملية انتشارها. فلا يوجد تمذهب جيد شرعى ومقبول وتمذهب آخر مرفوض ومدان. التمذهب يشرعن الانقسام الوطنى وتهميش الآخر الشريك فى الوطن وإقصائه خدمة لأهداف استراتيجية لقوى معينة. لذلك يبقى التحدى الأكبر: إطلاق عملية اصلاح دينى وتعليمى شامل وهو ما يتطلب شجاعة فكرية.
***
المطلوب هو العمل على تفكيك الفكر الداعشى والشرعيات الدينية التى ينطلق منها ويقتات عليها، وكذلك التأكيد على أن التمذهب، أيا كانت العناوين التى يختبئ وراءها، وهى عناوين لا تغطى الفكر ولا السلوكية المذهبية يبقى أمرا خطيرا وعدوا رئيسيا، لا بل مانعا لإعادة بناء الدولة الوطنية والسلطة القائمة على التشاركية الكاملة والشاملة.
المطلوب أيضا خارج العالم العربى والإسلامى وتحديدا فى الغرب امتلاك الشجاعة لمحاربة الفكر العنصرى والسياسات الشعبوية التى ترتكز عليه والتى تعزز الفوبيا القائمة على الخلط والمزج بين المسلمين والإسلام من جهة والفكر الأصولى بجميع مدارسه، والداعشى بشكل خاص، من جهة أخرى. هذه الشعبويات المنتشرة فى الغرب تبقى الحليف الموضوعى للفكر الداعشى والقاعدى. الفكر الذى ساهم دون شك ويساهم فى إطلاقها وتقويتها.
إن المطلوب إذن مقاربة مركبة فى عناصرها وكذلك فى أطرافها العربية والإسلامية والدولية لمواجهة هذا الخطر العالمى واجتثاثه.