للفنان العظيم يوسف وهبى مقولة رائعة «ما الدنيا إلا مسرح كبير» وبالنسبة للعديد من المهتمين بالمدينة فإن المدينة التى نعيش فيها هى فى أحد صورها مسرح قد يكون واقعيا، مأساويا، أو كوميديا سوداء أو غير ذلك.. البدايات التى أعرفها للمسرح قرأت عنها فى إطار الحضارة الإغريقية كمكان للتعليم تُلقى فيه الملاحم مثل الإلياذة والأوديسة ليس فقط للتغنى ولكن للاعتبار والتنوير. وأحيانا قطع جمهور ذلك المسرح الذى أسس فى الهواء الطلق المسافات الطويلة التى قد تصل لعدة أيام لحضور العروض بدافع الفضول وحب المعرفة.
وتحول المسرح مع شكسبير خاصة لمكان للدراما التى أسست للمسرح الكلاسيكى ثم ظهرت أشكال أخرى للمسرح أصبح الترفيه فيها شكلا أساسيا يطلب فى ذاته. وظهر المسرح لدينا منذ الحملة الفرنسية على مصر فى عام 1799 ثم توالت البدايات من أبو نظارة (يعقوب صنوع) إلى جورج أبيض وغيرهم.
***
وفى إطار اهتمامنا بالمسرح تساءلنا من خلال مشروع التخرج فى قسم العمارة بجامعة القاهرة منذ أعوام قليلة عن: كيف وأين يمكن أن يقوم المسرح بهدفه الأساسى فى (التعليم) أو التثقيف والتنوير وربما الترفيه أيضا فى مجتمع به من التحديات الرئيسية وربما الوجودية العديد؟
قرأت مع الطالبات والطلاب جزءا من «ضرورة الفن» لإرنست فيشر والذى يتناول وجود هذا الشىء (الفن) المسمى سحرا والقادر على التأثير على الإنسان. كما قرأنا مجموعة رائعة من الكتب التى أصدرها المركز القومى للترجمة لجين هارفى: المسرح والمدينة، كما قرأنا لهيلين فريشواتر: المسرح والجمهور وأيضا لجو كيهلر: المسرح والسياسة، وقرأنا أيضا النص الرائع لدان ريبيلاتو، المسرح والعولمة والذى يقيم فيه تفرقة دقيقة بين العولمة والكوزموبوليتانية ويضع فيه المسرح كأحد مراكز المقاومة ضد الرأسمالية المتوحشة. كما قرأنا لفيليب سادجروف، المسرح المصرى فى القرن التاسع عشر، والذى قدم تأريخا ممتازا لبدايات المسرح فى مصر خاصة مع الحملة الفرنسية وما تلاها. وأخيرا قرأنا لتوم سترن عن المسرح والسياسة.
بالتوازى مع تلك القراءات حضرنا عرضا مسرحيا معا وقمنا بزيارة ميدانية لبعض المسارح بدءا من وسط القاهرة وبالذات بالقرب من أول موقع لمسرح بالقاهرة بالقرب من حديقة الأزبكية (والذى أنشئ فى وقت الحملة الفرنسية) وشارع عماد الدين والمركز الثقافى (دار الأوبرا) ومسرح الهناجر بجزيرة الزمالك وانتهت الزيارة برؤية من فوق برج القاهرة للمدينة ومناطق المسارح بها. ثم قامت الطالبات والطلاب بحصر تلك المسارح (نحو 42 مسرحا) من حيث ملكيتها وسعة المقاعد بها ومكانها والفرق التى تعرض عليها. ثم قاموا بتوقيع تلك المسارح على خريطة القاهرة الكبرى وأصبح أحد أهم أسئلة المشروع كيف سيؤثر المشروع المقترح على جغرافية المسرح فى القاهرة ليس فقط مكانيا ولكن ثقافيا واجتماعيا.
لاختيار مواقع لتنفيذ المشروع بحثنا عن مواقع غير مستغلة بصورة جيدة ويمثل النشاط الثقافى والفنى استعمالا ملائما ومساعدا لإعادة الحيوية لتلك المنطقة من المدينة. كما كان من المستهدف أن يكون الوصول لأى من الموقعين بالنسبة لغالبية سكان المدينة ممكنا فى أوقات السنة المختلفة (وفى هذا الإطار فإن قربه من وسائل نقل عام موجودة أو تحت التنفيذ أو مخططة ــ مثل خط المترو الثالث لموقع إمبابة أو خط المترو السادس لموقع المحجر ــ يمثل رصيدا هاما لتك المواقع).
كان هذا المشروع أداة لطرح تساؤلات جادة حول الفن والمسرح وعلاقتهم بالعمارة وذلك من خلال التفكير فى السياق العمرانى والبيئى والاجتماعى والاقتصادى له. ويتناول السؤال المطروح كيف لعمارة المسرح أن تسهم فى مواجهة التحديات العديدة التى تواجه الحياة فى القاهرة وأن تكون محاولة لتحسين نوعية تلك الحياة.
***
قدمت الطالبات والطلبة بعض الأفكار الجادة مثل كيف يكون المسرح للشعب فعلا أى لجميع طوائفه وفئاته وكيف يرتبط بنسيج حياتهم ويتعامل مع أفكارهم وعقائدهم كبداية لحوار حقيقى بين المجتمع وأفراده بما قد يسهم ليس فقط فى تأصيل الفنون المسرحية، ولكن ربما فنون أخرى. وتساهم أطروحات أخرى تناول قضايا مهمة مثل الحق فى الوصول لنهر النيل وعلاقة المجتمع المصرى بالنيل والتى ينتج عنها أماكن غير رسمية متعددة ومتناثرة على طول النهر فى القاهرة. قد يخرج لنا المشروع المعمارى فى هذا الإطار تصور بديل لبناء مسار محاذى للنهر ولكن بصورة قد تكون أكثر إبداعا وتأثيرا على المدينة والنهر. وصياغة المسرح فى إطار تلك الأطروحة بالطبع ستكون مغايرة لما اعتدناه من تصورات عن قاعات ومبانى المسرح التقليدية.
أما المسرح فى سياق عمرانى به العديد من المصانع وأماكن الإنتاج المغلقة والمتداعية وبجواره أيضا كثافات بشرية كبيرة فى المناطق غير الرسمية فلا يستطيع الانفصال عن ذلك الواقع ويكتفى بوعد المجتمع بالفن الذى سوف يرتقى بحياتهم. وأطروحة الطالب التى تفترض أن المسرح سيكون له دور فى إعادة بث الحياة لذلك المكان الذى كان منتجا تكون بالتالى أكثر واقعية كما أنها تفترض فى الفن قدرة على المساهمة فى إعادة بث الحياة فى ذلك المجتمع المتهالك وقد تساعد العمارة فى تهيئة الإطار الخاص بذلك.
العمارة تستطيع أن تكون أكثر انفتاحا على قضايا المجتمع وقادرة أن تساهم فى تحسين حياة المجتمع من خلال مواجهة الواقع بخيال لا يحاول أن يتجاهل أو ينكر تلك التحديات وقد يكون فى ذلك أملا أفضل للمجتمع وللمعماريين أيضا.