أدت الحكومة التونسية الجديدة برئاسة د. نجلاء بودن، اليمين الدستورية أمام الرئيس قيس سعيد يوم 11 أكتوبر 2021، أى بعد 71 يوما من إصدار الرئيس قيس سعيد قراره فى 25 يوليو 2021 بإقالة حكومة هشام المشيشى، وتجميد عمل البرلمان، وتجميد حصانة أعضائه، وفرض عدة إجراءات استثنائية، ووقف العمل بعدة مواد فى الدستور التونسى، خاصة ما يتصل بكيفية تشكيل الحكومة، وضرورة حصولها على ثقة البرلمان قبل أن تؤدى اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، وأصبحت كل السلطات التنفيذية فى يد رئيس الجمهورية، ويمارس السلطة التشريعية بإصدار قرارات رئاسية فى ظل تجميد صلاحيات البرلمان. وقد تشكلت الحكومة من 26 وزيرا من بينهم رئيسة الوزراء ومعها 9 وزيرات أخريات. وهى أول مرة تتولى فيها رئاسة حكومة تونسية أو عربية سيدة وليس لها انتماء سياسى معين وإن كان لها جانب من العلاقات مع البنك الدولى بشأن تمويل بعض المشروعات الصغيرة.
وقد أراد الرئيس قيس سعيد بزيادة حصة المرأة فى حكومته الجديدة، بل ومنحها رئاستها، أن تحظى حكومته وربما قراراته بتأييد أو تعاطف شريحة كبيرة من النساء التونسيات، وألا تلقى معارضة قوية من جانب عدد كبير من الدول الغربية والولايات المتحدة. وأعربت بعض الدول عن تأييدها للحكومة التونسية الجديدة ومنها مصر، والسعودية، وتأييد الرئيس قيس سعيد من أجل تحقيق الاستقرار والتنمية والتغلب على التحديات التى تواجه تونس. ويلاحظ استمرار عدد من الوزراء السابقين فى الحكومة الجديدة وهم الذين يحظون بتأييد رئيس الجمهورية وهم وزراء الخارجية، والصحة، والمالية، والتربية والتعليم. ولفت الانتباه مغادرة وزير الشئون الاجتماعية فى الحكومة السابقة رغم أنه كان الوزير الوحيد الذى يمثل الاتحاد العام للشغل (للعمال)، وهو ما يضع علامة استفهام على العلاقات المقبلة بين الاتحاد والحكومة الجديدة، خاصة وأن أغلبية مكونات الاتحاد تطالب بضرورة الخروج من المرحلة الاستثنائية وصياغة خريطة طريق للمستقبل والعودة للحياة الديمقراطية وممارسة السلطات وفقا للدستور.
•••
وترى حركة الشعب المؤيدة للرئيس قيس سعيد، وللتدابير الاستثنائية التى اتخذها، أن الحكومة الجديدة مطالبة بخوض حرب حقيقية ضد الفساد، وضد اقتصاد الريع، وأن من حق الرئيس تعيين موالين له لأنه سيتحمل وحده مسئولية النتائج التى تتحقق. ويرى حزب التيار الشعبى أن تشكيل الحكومة يمثل مرحلة مهمة فى إطار استكمال مسار 25 يوليو 2021، وأن هذه هى المرة الأولى التى تشكل فيها الحكومة بعيدا عن منظومة الفساد من القوى السياسية، والإرهاب، وغير خاضعة للصفقات والمحاصصات، والبيع والشراء.
وقد عقدت عدة أحزاب مؤيدة لرئيس الجمهورية اجتماعا دام يومى 8 و9 أكتوبر 2021 لتنسيق مواقفها مع الإجراءات الاستثنائية التى اتخذها رئيس الجمهورية ومساندة نهجه السياسى، وإن كانت هذه الأحزاب انتقدت التضييق على الوقفات الاحتجاجية الرافضة للإجراءات الاستثنائية، ودعت الرئيس إلى الإسراع فى إقرار مجموعة من الإجراءات الإصلاحية التى وعد بها. وهذه الأحزاب هى حركة تونس إلى الأمام، وحزب حركة الشعب، وحركة البعث، والتيار الشعبى، وحزب الوطن الديمقراطى الاشتراكى، والتحالف من أجل تونس. ويلاحظ أنها أحزاب ذات اتجاهات ما بين يسارية، وقومية.
وقد أعلنت حركة النهضة، رفضها للحكومة الجديدة برئاسة د. نجلاء بودن، لما ترى أنه خروقات دستورية رافقت تشكيلها، ووصفتها بأنها حكومة الأمر الواقع، والأمر الرئاسى اللا دستورى، وأن فقدان الحكومة للشرعية (من وجهة نظرها) سيضاعف من التحديات والعراقيل أمامها فى تعاطيها مع الشأن الوطنى العام، ومع الشركاء الدوليين. وترى حركة النهضة أن رئيس الجمهورية، الذى أعلن أنه القائد الأعلى للجيش والقوات الأمنية، قد استخدم المؤسسة العسكرية لتعطيل باقى المؤسسات والاستحواذ على كل السلطات. وتعتبر الحركة أن البرلمان فى حالة انعقاد دائم وترى أن قرار رئيس الجمهورية بتجميد البرلمان وحصانة أعضائه غير دستورى. ويشارك بعض السياسيين ورجال القانون فى الرأى مع حركة النهضة، وأن الجيش أخذ جانب السلطة التنفيذية ممثلة فى البرلمان، وضد بعض أعضاء السلطة القضائية والسلطة التنفيذية وعطل أعمالهم بناء على تكليفات من رئيس الجمهورية، وبذلك فإن الجيش لم ينفذ فقط تعليمات الرئيس بل انحاز إليه، وأن رئيس الجمهورية أبدى النية فى إصلاح نظام الحكم وقانون الانتخابات، ولكنه لم يحدد ميعادا زمنيا لمدة التدابير الاستثنائية، كما لم يعط مؤشرات للأحزاب والمنظمات عن ما إذا كانت هذه الإصلاحات ستطرح فى حوار وطنى للجميع، وأن الإصلاح لا يتم عن طريق الانقلاب على الدستور، وأنه كان باستطاعة الرئيس تمرير الإصلاحات عبر الآليات الدستورية، ولكنه إلى الآن مستحوذ على جميع السلطات ويمكنه أن يفعل ما يريد.
ويرى حزب قلب تونس، وكان دائما على وفاق مع حركة النهضة فى البرلمان، أنها حكومة غير شرعية، وأنها ثالث حكومة يشكلها الرئيس قيس سعيد، بعد أن فشل اختياره الأول مع حكومة إلياس الفخفاخ، وتأزم الاختيار الثانى مع حكومة هشام المشيشى. ولا يزال الجدل متواصلا فى تونس بشأن تفعيل الفصل 80 من الدستور، والأمر الرئاسى بفرض الإجراءات الاستثنائية، وحول مدى شرعية تكليف الرئيس نجلاء بودن بتشكيل الحكومة، وتعليق نشاط البرلمان لأنه يخالف الفصل 80 الذى ينص على بقاء البرلمان فى حالة انعقاد دائم، وأنه رغم أن الفصل 80 منح الرئيس سلطات كبيرة، ولكن ليس لدرجة تغيير النظام السياسى، بل ليحمى الدولة والمؤسسات والدستور، وأن وظيفة حالة الاستثناء هى حماية هذه المؤسسات، وليس تغيير القوانين وتعديل الدستور، كما يرى بعض أساتذة القانون الدستورى التونسيين.
•••
وقد طالب الرئيس التونسى الأسبق محمد المنصف المرزوقى، بعودة البرلمان إلى نشاطه، واستقالة رئيسه الحالى راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة، واستقالة الرئيس قيس سعيد أو إقالته، على حد قوله، وأن تكون هناك مرحلة انتقالية محدودة المدة، نحو 45 يوما، تجرى بعدها انتخابات حرة ونزيهة. ودعا التونسيين والتونسيات إلى التظاهر بكثافة دفاعا عن الدستور والديمقراطية والسيادة الوطنية، وكرامتهم وحريتهم. وأقر بأنه سعى لدى فرنسا لدعم الشعب التونسى، وعدم عقد قمة الفرانكفونية التى كان مقررا عقدها فى تونس فى نوفمبر 2021، وقد أعلن تأجيلها إلى 2022، وقال المرزوقى، إنها لو عقدت فى بلد يعيش انقلابا فإن ذلك يعد تأييدا لهذا الانقلاب. وقد أشار الرئيس قيس سعيد إلى أنه سيتم سحب جواز السفر الدبلوماسى من الذين يذهبون إلى الخارج للتحريض ضد مصالح تونس، وهو بهذا يقصد المرزوقى. ومن جانبها أعلنت الجمعية البرلمانية الفرانكفونية تعليق عضوية تونس فيها بسبب الأوضاع السياسية وما تشهده تونس من توتر سياسى. كل ذلك بمثابة ضغوط على الرئيس قيس سعيد والحكومة الجديدة.
ويلاحظ أنه رغم ترحيب الولايات المتحدة الأمريكية بالحكومة التونسية الجديدة، واعتبرتها خطوة إلى الأمام نحو معالجة التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية التى تواجهها تونس، إلا أنها تتطلع إلى مزيد من الإشارات عن إرساء مسار يشمل الجميع من أجل عودة سريعة إلى النظام الدستورى. وكانت الخارجية الأمريكية قد أعربت عن «خيبة أملها» لما وصفته بتجاوزات حاصلة فى تونس، وأنها طالت حرية الصحافة والتعبير، وتوظيف المحاكم العسكرية للتحقيق فى قضايا مدنيين، ودعت تونس إلى الوفاء بالتزاماتها واحترام حقوق الإنسان وفقا للدستور التونسى والاستجابة لمطالب الشعب التونسى بوضع خارطة طريق واضحة المعالم للعودة إلى ديمقراطية شفافة يعمل خلالها المجتمع المدنى والأطياف السياسية المتنوعة. هذا وتطالب الدول الأوروبية بعودة تونس إلى المسار الديمقراطى، واحترام مضامين الدستور التونسى.
وقد شهدت العاصمة التونسية مظاهرات شعبية مؤيدة للرئيس قيس سعيد، كما نظمت الأحزاب والقوى السياسية مظاهرات ضد التدابير الاستثنائية التى اتخذها رئيس الجمهورية واتهم المتظاهرون المعارضون الأجهزة الأمنية بالتضييق عليهم وحصارهم. وقدرت هذه الأجهزة بأنها اتخذت نفس الإجراءات مع المتظاهرين المؤيدين والمعارضين على حد سواء.
وقد أعلن حزب العمال التونسى اليسارى بأن الحكومة الجديدة «حكومة انقلاب قانونا وفعلا» وأنها حكومة رئيس الدولة الذى أسند إلى نفسه بقرار منه فى 25\7\2021 الاحتكار التام للسلطة التنفيذية، وأن ما أعلنته رئيسة الحكومة الجديدة لدى أداء اليمين الدستورية هو نفس كلام الحكومات السابقة الذى سئمه الشعب التونسى، وإن نفس القول ينطبق على كلام الرئيس قيس سعيد الذى ظل يحكم تونس على مدى عامين بخطب مليئة بالألغاز، على حد قولهم.
كما هددت عبير موسى، رئيسة الحزب الدستورى الحر المعارض بمقاضاة رئيس الجمهورية بتهمة التستر على العنف والمشاركة فى ذلك «حيث كان لدية معلومات حول تعرض نواب كتلتها البرلمانية للعنف داخل البرلمان قبل ثلاثة أيام من حدوثه، ولكنه لم يوفر لهم الحماية الأمنية الضرورية، وأكدت أنه فور مغادرة الرئيس منصبه وزوال الحصانة عنه سيجد شكواها ضده لدى القضاة فى انتظاره، واتهمته بأنه يكيل بمكيالين بالمساواة بين الضحية والجلاد عندما رفع صورا توحى بمشاركة نواب الحزب الدستورى الحر فى الاعتداءات التى وقعت خلال شهر يونيو 2021 فى البرلمان.
•••
وكان الرئيس قيس سعيد، قد قال عقب أداء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية أن أكبر التحديات التى ستواجهها هى إنقاذ الدولة التونسية من براثن من يعتقدون أن المناصب غنيمة أو قسمة للأموال العمومية أو للمراكز والنفوذ، وأنه لا مكان لمن يريد العبث بسيادة الدولة والشعب، واتهم كثيرين، دون تحديد، بسرقة أموال الشعب ومقدراته وأنه سيحبط كل ما يخططون له فى مقبل الأيام، وقال إنه سيجرى حوارا وطنيا حقيقيا مع الشباب بكل جهات تونس، ومع كل التونسيين والتونسيات ممن يقبلون الحوار الثابت لاستكمال الثورة، واستكمال حركة التصحيح والتحرير، وأنه ستوضع مواعيد محددة لكل محطة من هذه المحطات، وأنه لا يريد البقاء فى ظل الإجراءات الاستثنائية، ولكنه سيبقى العمل بها ما دام هناك خطر جاثم فى البرلمان (المعلقة صلاحياته) وفى عدد من المؤسسات الأخرى، وأن أموال الشعب ستعود إليه وليس لمن يعملون على إسقاط الدولة التونسية، ونفى صفة الانقلاب عن الإجراءات الاستثنائية لأنها تستند إلى الدستور.
وأوضحت رئيسة الحكومة الجديدة أن حكومتها ستركز على إرجاع الثقة والأمل للشعب التونسى، وضمان الأمن الاقتصادى والصحى واستعادة الثقة فى تونس، ومكافحة الفساد الذى يزداد يوما بعد يوم، والعمل بمبدأ المراقبة والمحاسبة، وتحسين مستوى معيشة السكان وزيادة قدرتهم الشرائية وتوفير خدمات جيدة والاستجابة لمطالب الشعب، والانفتاح على كل الأطراف، ومعالجة مشكلات احتكار وتوزيع السلع، وحماية ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ودعم المصدرين وتبسيط الإجراءات الإدارية لهم.
إن الحكومة الجديدة حكومة تكنوقراط، سيكون عملها رهنا بما يتاح لها من موارد مالية لمواجهة الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى والاستجابة لمطالب وتطلعات الجماهير. وأن أمامها ميراثا ثقيلا من فترة الصراع بين السلطات من ناحية، والفترة التى توقف خلالها عمل معظم إن لم يكن كل وزراء الحكومة السابقة. وذلك فى ظل حالة من الاحتقان السياسى والانقسام بين مؤيدين لرئيس الجمهورية ومعارضين له. وماذا سيكون عليه موقف الدولة العميقة من الحكومة الجديدة التى لا تحظى بدعم أحزاب سياسية قوية وأمام تركيز للسلطات فى يد رئيس الجمهورية، وحالة من الترقب المتحفز من جانب العديد من القوى الخارجية التى تطالب بضرورة صياغة خريطة طريق والعودة للحياة الديمقراطية وفقا للدستور.
ويبقى أن الأوضاع فى تونس أصبحت تتوقف على ما سيتخذه رئيس الجمهورية من خطوات وفى أى اتجاه، هل نحو الاستمرار فى صياغة النظام السياسى والدستورى الذى يريده، أم العودة إلى إشراك القوى السياسية المدنية والاتحاد العام للعمال ومنظمات المجتمع المدنى فى صياغة النظام السياسى والدستورى الجديد والخروج من دائرة الانقسام والصراع التى تضر بالجميع وبمصالح تونس والشعب التونسى.