هناك لحظات تبدو وكأنها دهر بحاله، لحظات انتظار قد يتغير على إثرها مصير شخص. لحظات قد لا يحكمها أى منطق. فهى لحظات يراجع فيها مثلا موظف سفارة أجنبية طلب تأشيرة لا يمكن لشخص أن يلتحق بالجامعة التى قبلته دون الحصول عليها. أو قد تكون لحظات يقرر فيها مسئول فى مصلحة حكومية إن كان سوف يقبل طلب استسماح من أجنبى خالف شروط الإقامة، بسبب ظروف منعته من تجديد أوراقه ضمن المدة المسموح بها. هناك أيضا لحظات تمر كسنوات بأسرها فى غرفة انتظار فى المستشفى، بينما يعمل جراح خلف البابين المغلقين على جسد شخص قريب. هناك لحظات بين خبر عن حادثة مروعة فى منطقة مألوفة وبين أول اتصال يجريه شخص مع عائلته يطمئنها فيه أنه بخير. هناك أيضا اللحظات الأخيرة التى تسبق الإعلان عن نتيجة ما، كفحص طبى أو امتحان أو قرار من محكمة، هى لحظات تكاد دقات القلب فيها أن تكون مسموعة، ورجفة اليدين أن تكون مرئية. هى فعلا لحظات قد يتغير فيها المصير أحيانا دون رجعة.
***
أقف تائهة فى مواجهة موقف، فأسأل نفسى ذلك السؤال غير المفيد بل المؤلم، والذى لطالما حاولت أن أتناساه حين أراجع نفسى. سؤال الـ«ماذا لو؟». كم هو جائر هذا السؤال، وهو الذى لا يؤدى إلا إلى دفعنا نحو التمرغ أكثر فى هول ما جرى، مع جلد إضافى للذات فى كل مرة نعيد فيها تركيب المشهد، بعد تعديل آخر قد يبدو طفيفا على السيناريو. كأن نؤجل قرارا لمدة دقائق فتتلاحق الأحداث بشكل مختلف، أو نغير طريقنا اليومى فنصل أسرع ونرى شخصا قبل أن يرحل، أو نتواصل مع قريب بدل أن نتفاداه فتتغير العلاقة معه تماما.
***
فى قصص اللجوء السورى الكثير من الـ«ماذا لو؟»، فالحيوات التى أصبحت تشبه خيوطا متشابكة معقدة باتت تختلف بشكل جذرى عما كانت عليه قبل سبع سنوات، حتى كاد أصحابها أن يجزموا أنهم لم يعودوا هم أنفسهم أصلا. فى اللجوء شىء أشبه بإعادة تأليف شخصيات فى قصة، بل لعل كلمة ملحمة هى أكثر ملاءمة كوصف للحرب السورية. ليست كل القصص مأساوية على فكرة، إنما أغلبها قصص أخذت أصحابها فى طرق جديدة لم تكن فى مخططهم الحياتى أو الفكرى أو الإنسانى أصلا.
***
أضع طفلتى الصغيرة فى حجرى وأتهادى بها ذات اليمين وذات اليسار علنى أخفف عنها شعورها بالمرض والضيق منه، فحرارتها مرتفعة من جديد، وقد احتقنت حنجرتها فمنعها ذلك عن الطعام والشراب. ماذا لو كنت أجلس فى قفص سيارة نقل بضائع على طريق للسفر فى محاولة منى أن أهرب بأولادى إلى مكان آمن؟ ماذا لو ارتفعت حرارة طفلتى فبكيت من التعب فى اللحظة التى طلب منا المهرب أن نتوقف تقريبا عن التنفس، حتى لا نجذب انتباه حرس الحدود ونحن نعبرها نحو حياة نريدها جديدة؟ ماذا لو قرر المهرب أن استمرارى وابنتى المريضة فى الرحلة سوف يعرض باقى المسافرين إلى خطر هم جميعا غير مستعدين أن يمروا به أو يتحملوه؟
***
سوف يخيرنى المهرب بين الاستمرار معهم أو الهبوط من سيارة التهريب. قد يحاول بعض الركاب إقناعى أن أترك ابنتى هنا فى سبيل أن نعبر جميعا، ثم أتواصل مع المنظمات الإنسانية هناك حتى يحضروا لى ابنتى ذات السنتين، بموجب القوانين الدولية التى تقضى بلم الشمل بين الأطفال وذويهم. سوف أرفض طبعا تماما أن أتخلى عن ابنتى، سوف أعدهم جميعا ألا يصدر عنها أى صوت، ولا حتى حشرجة نفس قد يضع الجميع فى مواجهة حراس الحدود. سوف ينقسم المسافرون إلى فريقين، أحدهما متفهم لوضعى وابنتى وآخر يرى فى مصاحبتى لهم نهاية حتمية لأحلامهم.
***
سوف ألصق وجهى بوجه طفلتى، سوف أتحدث معها، سوف أغنى لها بصوت خافت أغنية «قمرة يا قمرة»، سوف أبلل منديلى بنقط من الماء أمسح به وجهها دون أن أتوقف عن الغناء الخافت. «والشجرة عالية ما بتطالا الإيد، وكيف بتمشى حافية وفستانك جديد». تفتح عينيها لتنظر فى عينى، فأؤكد لها أننى هنا وأننى لن أتركها. أتلمس جبينها وأدعك رأسها، أعطيها القليل من الماء فقد يساعد على خفض حرارتها.
***
فى منزلى القاهرى أمضى ليلة نومها قليل بسبب مرض الصغيرة. لا أقلق فلا بوادر سوى تلك الأعراض التى عادة ما تهاجم الأطفال عند تغير الفصول. لكننى لا أتوقف عن تخيل سيارة المهرب والكتلة البشرية المكورة فى الخلف، وأرى أما كان يمكن أن تكون أنا، تمسك أيضا بوجه صغيرتها وتطبع قبلة على جبينها الدافئ، بينما تتضرع فى سرها إلى الشيخ محى الدين بن عربى، الذى كثيرا ما زارت مقامه فى دمشق فى أوقات الضيق ولم يردها قط، أن تمر اللحظات القادمة دون هفوة منها أو تأوه من طفلتها. تمر لحظات كالسنوات، أنظر فيها إلى وجه ابنتى وأمسح شفتيها بالماء، تحرك رأسها الصغير بضيق. هناك، تحرك الطفلة الأخرى رأسها بضيق وبصمت، تمر اللحظات ببطء ويشعر جميع من فى قفص سيارة النقل أنهم يمرقون بأجسادهم من الطرف العلوى لساعة رملية ثم يتهاوون إلى أسفلها.
مضت ليلتى وليلتهم على خير، لكن ماذا لو لم تمض؟