فى يوم الأحد الماضى حضرت إحياء ذكرى الشهيد أحمد منصور، فى قصر الإبداع والثقافة بمدينة السادس من أكتوبر، الشهيد استشهد فى أحداث مجلس الوزراء، أحداث وقعت فى المرحلة الانتقالية إبان تسيير المجلس العسكرى لها، وقعت الأحداث تلو الأحداث وبعد كل حدث اختلفت wالقوى والتوجهات وتراكمت طبقات الاختلاف مع تركها تتفاقم، بل إن الأخطر أن هناك من كان يغذى تلك الاختلافات من كل طريق، وانتقل ذلك من دائرة الاختلاف الى دائرة الاستقطاب، وصبت فى دائرة الانقسام وحال التنازع، وبعد كل حدث واختلافات أعقبته زادت الشقة بين الرفقاء فى ميادين الثورة حتى صاروا فرقاء، وذاعت لغة الاتهام والتخوين والتكفير مع كل اختلاف جديد، وظن البعض أنه مع وجود مؤسسات منتخبة ستستقر الأمور، وتنضبط مسالك السير والمسير، برلمان منتخب، ورئيس منتخب لتأسيس مصر النهوض ودولة الثورة بكل معانيها ومبانيها ومغازيها.
إلا أن الأمر سار فى طريق أورث مزيدا من الخلاف وراكم مزيدا من الاستقطاب والتنازع، وخرجنا من إدارة المرحلة الانتقالية من الإدارة بالكوارث الى إدارة الفرص الضائعة وهدر الإمكانية، وعاد انقسام الميادين، وانقسام الناس، وانقسام القوى السياسية، فهذا يستقر بميدان، وذاك يستولى على ميدان آخر، وهذا يمنع البعض من دخول الميدان وآخر ينصب حراس البوابات على الميدان يسأل الداخل والخارج ضمن عملية تفتيش فى الضمائر والأفكار والاتجاهات، فإذا اقترب الجمعان اشتبكا واقتتلا، وخرجت المرة تلو المرة نظرية الطرف الثالث وعادت الميادين لانقسامها وربما اشتباكها عن بعد وعن قرب.
●●●
ونظرية الطرف الثالث تفسر نفسها، فمع وجود طرف واحد لا يوجد الثالث، ويوجد الطرف الثالث فقط حينما يوجد الطرفان المختلفان المتنازعان فيخرج هذا الطرف فى غمرة هذا التنازع يضرب ضرب عشواء لتصيب أيا من الطرفين، فتحقق المقصود فى تأجيج الاستقطاب والتنازع، يطل الطرف الثالث ويخرج من جحوره بمأجوريه وبلطجيته، يطل برأسه وبأذنابه إذا اقتتل الرفقاء الذين صاروا فرقاء، فهو يسعى بالوقيعة وإذكاء نار الفتنة، ينفذ خطة الثورة المضادة والتحالفات الاجتماعية والمصالح المتجمعة ضد الثورة المباركة أهدافا ومكتسبات.
جامعية القوى المتنوعة عنوان دحر الطرف الثالث الى مكمنه وجحوره بحيث لا يقوى على السعاية بالفتنة أو البروز لصناعة الفرقة، الطرف الثالث يا سادة نحن من نصنعه، ونحن من نهيىء له سوء عمله والوصول الى هدفه الخبيث، فبعد كل حدث يزداد الانقسام انقساما، ويتحول التنازع الى احتراب واقتتال، ويسود الخطاب المتبادل مفاهيم الحروب، الزحف، الأعداء والخصوم، وحروب الفكر من تخوين وتكفير، وكل صنوف الهجاء وخطب وبيانات هوجاء، والوصول بالأمر الى المواقف المغلقة والطرق المسدودة ومسالك الخلاف الممدودة، وشعوب منهكة ومكدودة، حاجاتها لا تتحقق، وضروراتها لا يهتم بها ولا يلقى لها بالا، وحقوقها مهضومة ومأزومة.
●●●
الشعب يصرخ فى نخبته التى صارت فى عمومها من أسباب نكبته، ما بالكم تتقاتلون على سلطة زائلة، وتحكمت فيكم شهوة السلطة بين من يحكم ويريد أن يتحكم، وبين من لا يحكم ويريد أن يحكم ويتمكن، الكل عينه على السلطة، النخبة فى غمرة صراعاتها على السلطة انتهكت مواثيق الثورة غير المكتوبة، بل إنها هددت بتنازعها كيان الوطن، وصرنا نتحدث عن حماية الوطن بعد أن كنا نتحدث عن حماية الثورة. والنخبة سائرة الى ضيق مصالحها الأنانية، ومسالكها فى تنازع وفرقة وحالة انقسامية. لقد عمّقت النخبة معانى الصدع والشق فى جماعتنا الوطنية وصارت تطلق مفردات الهدم بلا أى تحرز، وكأنها فى سبيل مصالحها الآنية يمكن أن تحرض بالكلام على حريق القاهرة السياسى.
ما الذى إذن افتقدناه طيلة هذه المسيرة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟، ما الذى وطأناه فى مسيرنا تحت أقدامنا؟، ما الذى انتهكناه بأفعالنا وبخطابنا؟، ما الذى فعلناه بثورتنا وبوطننا بسبق إصرار وترصد أو بغيرهما؟، فالعبرة هنا بمآلات الخطاب والأفعال التى جعلت الثورة فى خطر والوطن فى مأزق والمواطن فى حيرة وإحباط، ما الذى جعل الثورة المضادة فى المشهد تعمل بيانا عيانا فى هدم الوطن والثورة؟! وتسربت فى كيان الثورة لتعلن أن ما نشهده الآن ليس إلا ثورة على ثورة، أو أننا أمام ثورة ثانية؟
بين نخبة محنطة تريد أن تجعل الأوطان على مقاسها ومقاس مصالحها، وبين جماعة ضيقة الأفق لا تفكر باتساع الوطن وسعته، أليس علينا أن نخرج من قمقم أطراف تتنازع الى حقائق أخرى تجمع الكيان وتقرع الأذان بالإنذار لكل هؤلاء: نخبة جديدة وعمل جديد وأول تبنيات هذه النخبة الجديدة أملا وعملا فى هندسة المشهد الذى تريد، أن تكشف عن الأخلاقيات غير المكتوبة فى ميدان التحرير وميادين الثورة، خروجا على ممارسات الاستقطاب التى تضر بالجميع، بالوطن وبالثورة وبالشعب.
اقترب منى أحد السادة المشاركين فى إحياء ذكرى الشهيد «أحمد منصور» ليؤكد ضرورة أن نؤسس «لميثاق الميدان» وما يحمله من قيم، خروجا على خطاب التنازع وسلوك الاستقطاب، واستلهاما لروح الميدان فى الثورة، استعادة مشهد الميدان والميادين بمنظومة قيمه والآليات لتمكين قيم الميدان فى الخطاب والممارسة.
●●●
ما هى فحوى الميثاق غير المكتوب الذى كتبه الجميع باجتماعهم وجمعهم فى الميدان:
● الميدان يسع الجميع، الميدان هو رمز الوطن والثورة، لا يستثنى أحدا، ولا يستبعد أحدا، الميدان وطن رمزى صغير، الميدان يجمع الثوار، ويبعد كل من كان ضد الثورة أو من قامت ضده الثورة، النظام البائد بمنظوماته وأعيانه وأعوانه وزبانيته، لا مكان لهم بالميدان رمز الثورة ورمز جامعية الوطن.
● الميدان يستوعب ولا يُستوعب، يستوعب كل القوى على تنوعها وتعددها ،درس الميدان أن الوطن لا يستطيع أن يقوم به فصيل أو تسيطر عليه جماعة، الميدان لا يضيق بأحد، هو بسعة الوطن وأهداف الثورة، ميادين الثورة لشرفاء الثورة وعلى أرضه سقط شهداء ووقع مصابون، وسع الجميع وبما ازدحم به الناس، إلا أن الجميع وسعتهم الساحة وجمعتهم المساحة،جمعهم رمزية الوطن والثورة.
● الميدان الجامع لم يكن إلا عنوانا لجامعية الأمة وتماسك الجماعة الوطنية، ليس تعبيرا عن فرقة أو استئثار من أحد، الميدان حركة وطن، وعنوان ثورة، ومعيار كل جامعية واجتماع، الميدان وطن وأى جماعة أو قوى فيه هى للوطن، والوطن لن يكون لجماعة، وحينما تستأثر به فئة وتقول إنها القوى الثورية، أو القوى المدنية، أو القوى الدينية، فهذا تصنيف يشق تماسك الأمة وجامعية الوطن، الوصف بالثورية لا يحتكره أحد، ولا يمن به أحد على أحد، والمدنية هى من نصيب كل أحد حينما تشير الى الاجتماع المشترك والعيش الواحد، وإدارة التعدد فى مجتمع سديد وحكم رشيد. والتدين هى صفة لكل المصريين لا يتميز به أحد عن أحد فلا يكون مدخلا لفرقة أو افتاق أو تفرقة، إنه وطن يسع تدين الجميع، فى إطار وسطية جامعة، واجتماع الناس فى وطن هى الغاية الكبرى التى يجب أن نعمل لها جميعا.
●●●
الميدان بمشروع الجامعية فيه قدم أصول شرعيته وشرعية مطالب ثورته، وقدم إجابة على كل الأسئلة التى حار فيها المفكرون وتفرق عليها المثقفون، وسع الميدان الشعب بكل طوائفه بشبابه وشيوخه وأطفاله، بالمرأة والرجل، بالمسيحى والمسلم، بالليبرالى واليسارى والإسلامى، بالبحرى والقبلى، بالحضرى والريفى والبدوى، بعلماء الدين وعلماء الوطن وعوامه، الجامعية فيه كانت عنوان دافعيته فى بلوغ أهداف الثورة وفعالية نهوضه فى جماعيته واجتماعه، هذه هى معانى ميثاق الميدان.
أين نحن الآن من قيم الميدان، وممارسة روح الميدان.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة