احترنا فى أمر الحوثيين، فللوهلة الأولى يبدو أن ما يفعلونه عند باب المندب نصرة لأهل غزة، ولكن مع إمعان النظر فى أثر هجماتهم على سبل الملاحة البحرية الدولية نجد تأثيرا مباشرا على قناة السويس والمصالح المصرية. وكنا نتوقع مع إطلاق أول صاروخ باليستى من اليمن باتجاه إسرائيل بأن ثمة رد فعل سيحدث ضد الحوثيين، لكن لم يحدث شىء. ثم تصاعدت هجمات الحوثيين واستهدفت السفن المتوجهة إلى إسرائيل وهرعت البحرية الأمريكية إلى المنطقة لكن استجابتها ضعيفة لنداءات الإغاثة المتكررة من السفن المارة، مما دفع أكبر شركات الملاحة العالمية مثل ميرسك الدنماركية، وهاباج لويد الألمانية بإعلان وقف جميع رحلاتها البحرية عبر البحر الأحمر لحين إشعار آخر. وازداد الموقف غموضا فى ظل غياب موقف حاسم من دول الخليج التى تتضرر مصالحها وصادراتها من النفط، مما يدفعنا أن نسأل، وماذا بعد؟
نلاحظ هنا أن هجمات الحوثيين لم تتسبب فى رفع سعر البترول كما هو متوقع وهى سابقة فريدة من نوعها. ويرجع السر وراء تماسك أسعار البترول عند مستوى أقل من 80 دولارا للبرميل إلى إغراق الولايات المتحدة الأسواق بإنتاجها بعدما سمح الرئيس الأمريكى للشركات الأمريكية بزيادة استخراج وتصدير البترول من الحقول الأمريكية. جاء ذلك بعد صفقة كبرى قامت بها شركة «إكسون ــ موبيل» حيث استحوذت على شركة «بايونير ناتشورال ريسورسز» التى تنتج البترول من حوض برميان، وهو أكبر حوض نفطى فى الولايات المتحدة، ويقع فى غرب تكساس ونيو مكسيكو، وارتفع إنتاجه اليومى ليتخطى مستوى إنتاج النفط اليومى لدولة مثل العراق. وفى سياق متصل، خففت الولايات المتحدة العقوبات التى فرضتها على صادرات النفط من فينزويلا المفروضة عليها منذ عام 2017، وأدى ذلك لزيادة المعروض فى أسواق النفط لتلبية الطلبات.
• • •
لم تأتِ هذه الإجراءات كرد فعل لما يقوم به الحوثيون، وإنما تم الترتيب لها من فترة لتوازن قرارات منظمة «أوبك بلس» والتى خفضت إنتاجها من النفط بصورة متكررة منذ بداية الأزمة الأوكرانية بحثا عن سعر عادل لبرميل البترول، حيث تعمل السعودية وروسيا على رفع سعر البرميل لمستوى يتخطى 100 دولار، ولكن الإجراءات الأمريكية نجحت بالرغم من ذلك فى السيطرة على أسعار النفط العالمية، حتى بعد اندلاع حرب 7 أكتوبر فى فلسطين المحتلة ودخول الحوثيين لأتون المواجهة. ويبدو أن دول أمريكا اللاتينية وجدت أن الفرصة مناسبة لها لزيادة صادراتها البترولية، حيث أعلنت البرازيل عن زيادة صادراتها من النفط والتى وصلت لمستوى 4,6 مليون برميل يوميا، وهو الأمر الذى دعا منظمة «أوبك بلس» إلى دعوة البرازيل للانضمام لها. ولم تمانع البرازيل، ولكنها اشترطت عدم مطالبتها بتخفيض إنتاجها.
نلاحظ هنا الثمن السياسى الذى تدفعه الولايات المتحدة لاستمرار سيطرتها على أسعار النفط. فسياساتها ترتد عن جهود مكافحة التغير المناخى وتؤثر سلبا على سياسة الاقتصاد الأخضر الذى يتبنى تخفيض إنتاج النفط لتقليل الانبعاثات الحرارية. كما أنها تفتح الباب لدور أكبر لدول أمريكا اللاتينية فى ملف السياسة العالمية ومعظم تلك الدول مرتبط بمصالح اقتصادية كبرى مع الصين لاسيما عبر منظمة البريكس، مما يعزز المصالح الصينية.
إذن ما يقوم به الحوثيون لم يؤثر على سعر النفط بسبب زيادة المعروض، ولكنه يؤثر على الملاحة عبر البحر الأحمر، وبالتالى على دخل قناة السويس. وأعلنت أكبر خمس شركات لنقل الحاويات فى العالم عن وقف رحلاتها عن طريق البحر الأحمر، وسبق ذلك أعلن ميناء إيلات الإسرائيلى عن انخفاض بنسبة 84% من حركة الشحن من وإلى الميناء منذ بدء الهجمات الحوثية. وبنظرة عامة نجد أن عدد الرحلات عبر قناة السويس انخفضت بنسبة 3.5% من أكتوبر إلى نوفمبر الماضى، والانخفاض مرشح للتصاعد فى شهر ديسمبر الجارى، كما انخفض إيراد القناة بنسبة 3%. وعلى الجانب الأردنى، انخفضت حركة التداول عبر ميناء العقبة بنسبة 16% فى نفس الفترة، وهو منفذها البحرى الوحيد. وفى سياق متصل، نفت الأردن فتح معابرها البرية أمام صادرات إسرائيل لتعبر من الخليج العربى إلى الأسواق الآسيوية. ولكن بالرغم من هذا التأثير السلبى المباشر لا نكاد نرى تحركا قويا لوقف التصعيد الحوثى الذى يهدد أيضا سلامة الدول ومقاصدها السياحية ودخلها القومى.
• • •
ويبدو أن الجميع يخشى من التحرك السريع ضد الحوثيين لكيلا يتوسع نطاق حرب 7 أكتوبر وتتحول لحرب إقليمية. وتظهر شواهد هذا التباطؤ فى غموض الموقف بالنسبة لتفعيل مهام القوة 153 البحرية لتأمين الملاحة فى البحر الأحمر وباب المندب. وهذه القوة نشأت عام 2001 لمواجهة تهديد الإرهاب الدولى، وهى قوة بحرية تضم 39 دولة ومقرها فى البحرين وتتناوب الدول الأعضاء على قيادتها كل ستة أشهر. وكانت مصر تتولى قيادة القوة حتى منتصف يونيو الماضى، وتقوم حاليا الولايات المتحدة بقيادتها حتى نهاية ديسمبر 2023. ولكن لم يتم استخدام هذه القوة فى التصدى للحوثيين. ثم أعلن وزير الدفاع الأمريكى عن البديل عند زيارته للبحرين فى 18 ديسمبر، حيث أعلن عن إطلاق «عملية حارس الازدهار» لحماية التجارة فى البحر الأحمر، بمشاركة 10 دول بالإضافة للولايات المتحدة، وهى بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، والنرويج، وسيشيل، وإسبانيا. وفشلت محاولات ضم الصين لهذه القوة.
• • •
يبدو أن الدول العربية لا تريد أن تظهر فى صورة المعتدى على اليمن حال وقوع المواجهات المرتقبة بين التحالف الجديد وبين الحوثيين، لاسيما فى ظل استمرار حرب 7 أكتوبر وتداعياتها. وبدورها لا تريد الولايات المتحدة التحرك بانفراد لأن ذلك يزيد من تهديد مصالحها فى المنطقة، ويفتح عليها جبهة قتال جديدة بالإضافة لجبهة غزة. وإنما تتحرك عبر تحالف من عدة دول بقصد تأمين الملاحة البحرية التجارية، وتفعل كل ما بوسعها لضمان عدم الربط بين ما يجرى فى غزة بما يجرى فى باب المندب، فى محاولة منها لعدم الاعتراف بأن الحرب توسعت بالفعل، وأيضا لمساعدة جيش الاحتلال الإسرائيلى فى تركيز جهوده داخل المناطق المحتلة فى فلسطين، وبطول الشريط الحدودى مع لبنان. ولكن لا يبدو أن هذه التحركات مؤثرة إلى الآن فى تغير المشهد عند باب المندب. بل يستمر الحوثيون فى استهداف السفن، وأعلن المتحدث الرسمى باسم قوات اليمن المسلحة التابعة للحوثيين، العميد يحيى سريع فى بيان مطول «إن القوات المسلحة اليمنية تؤكد استمرارها فى منع كل السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، من أى جنسية كانت، من الملاحة فى البحرين العربى والأحمر حتى إدخال ما يحتاجه إخواننا الصامدون فى قطاع غزة من غذاء ودواء». الشاهد أن استراتيجية الولايات المتحدة للتعامل مع الحوثيين تزيد من مكانة الحوثيين فى المنطقة، مما ينذر بمزيد من المتاعب المستقبلية.