أحجية قطع الحياة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:15 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحجية قطع الحياة

نشر فى : الأربعاء 23 يناير 2019 - 11:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 23 يناير 2019 - 11:55 م

فى حصة الفلسفة فى المدرسة توقف الأستاذ طويلا عند موضوعى الزمن والمكان، عرضهما علينا، طلاب المرحلة الثانوية، من الناحية الإنسانية والفلسفية، حيث شرح لنا أنه بغض النظر عن البعد الفيزيائى والفيزيقى، هناك جزء غير ملموس وأصعب فى الشرح وهو تصور الإنسان لمفهومى الزمن والمكان.
***
المكان هو مدرستى فى دمشق منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، ومن الصعب على هنا فى بيتى فى القاهرة وأنا أم لثلاثة أطفال، أن أعود إلى ذلك اليوم الشتوى فى مدرسة صغيرة وسط حى سكنى، هواء الغرفة مشرب برائحة المازوت المستخدم فى المدفئة القديمة، وأيادى الطلاب تأخذ ملاحظات بقلم حبر على دفتر مخطط. من لا يكتب ينظر من الشباك فيرى أشجارا سقطت عنها الأوراق، وقد غطى البخار زجاج الشباك، حتى أن إحدى الطالبات الجالسات قربه كتبت اسمها عليه متبعة إياه بقلب وسهم.
***
الزمن هو حين كانت جدتى موجودة أتذكرها فى المطبخ، هو يوم شتوى أغلقت فيه جدتى الأبواب المطلة على حديقة بيتها الداخلية ووقفت تطبخ شوربة العدس. يمر بائع المازوت فى الشارع مناديا على السكان. هناك أيضا رائحة برتقال ربما لأنها رمت قشر الفاكهة فوق الموقد.
***
تسقط تفاصيل كثيرة من تصورى لتلك الفترة، تظهر وجوه أصدقاء ما زلت على تواصل معهم وأتساءل عن الصبية اليونانية التى لم يكتشفها أى منا على شبكات التواصل الاجتماعى بعد أن انتقلت وعائلتها إلى بلد جديد. العلاقة مع وقت مضى ومكان لم أزره منذ مدة تصبح افتراضية، فيها قطعا ما هو حقيقى والكثير مما أعيد تجميعه لتظهر لى الصورة الكاملة بأشخاص وأصوات بل حتى مع روائح ونكهات ترمينى فى مشهد يختلط جزؤه الحقيقى مع المتخيل.
***
تغنى ابنتى أغنية تعلمتها حديثا وأرددها معها رغم أننى لم أسمعها أو أفكر بها منذ تعلمتها حين كنت فى عمرها، إذ ليست، أى الأغنية، من الأغانى المعتادة إنما تركيبة معقدة لكلمات تحث الطالب على الحفظ الصحيح. تختفى ابنتى من المشهد الحاضر لأعود إلى زمن يخطط فيه أبى وأمى، وهما فى سن الشباب حياتهما وحياتى. وأجلس على يد المقعد قربهما أردد الأغنية ذاتها ويضحكان من صعوبة نطقى للكلمات. لا يهم مكان غرفة الجلوس التى تظهر لى ولا تاريخ ذلك المشهد، لم تعد تلك التفاصيل مهمة بقدر أهمية تصورى لليلة عادية جلست فيها قرب والدىَّ أحاول جذب انتباههما بينما كانا يناقشان أمرا طبعا لا أتذكره اليوم.
***
أتساءل عن تصور أطفالى بعد عقدين أو ثلاثة عن حياتهم وعنى، أين سنكون وكيف ستعود إلى أذهانهم أيامهم فى القاهرة؟ صوت بائع الأثاث القديم «روبا بيكيا» فى الشارع، رائحة البطاطا المشوية تصل إلينا من على عربة تحت شرفتنا، أيام مشحونة بالوضع السياسى وأحاديث لا تنتهى مع أصدقاء يزورونا قد تصل بعض كلماتها إلى الأولاد.
***
أحمل فى يدى اليوم علبة فيها قطع صغيرة إن جمعتها على طاولة شكلت مشهدا كتلك اللعبة التى يهدينا إياها دوما أحد الأقرباء فى العيد: لوحة كبيرة مكونة من ألف قطعة صغيرة سرعان ما يفككها القريب ويضعها فى كومة على طرف الطاولة ويحثنا على تركيبها. لكل منا علبة فيها قطع حياته، أنا أمسك علبتى وأخرج منها قطعة تلو الأخرى دون أن أتمكن من إعادة تركيب المشهد كاملا. أظن أننى أضعت بعض القطع وحاولت ملء الفراغ الذى تركته بقطع رسمتها بنفسى وأخرى أخذتها ممن حولى. تلك التى رسمتها قد لا تناسب باقى اللوحة لكنها تسد الفراغ لذا سوف أتغاضى عن ألوانها. أظن أننى أسقطت من ذاكرتى تفاصيل واستبدلتها بأخرى فى تصورى لما يظهر اليوم فى اللعبة.
***
جمع القطع ممتع وصعب فى الوقت ذاته، يحتاج إلى مستوى عال من التركيز، فالقطع كثيرة وأحيانا متشابهة، ثم إننى نسيت بعض جوانب القصة فأرتبك قليلا أمام ما أحاول تركيبه. محاولة العودة إلى مشهد مجمد فى زمن ومكان تسمح لى بزيارة غير سهلة. لكنى حين أزور المشهد أرى وجوها لا أتذكرها وأسمع قصصا مغايرة لتلك التى حفظتها. أكنت مخطئة فى تقييمى لما قيل؟ هل تغير مفهومى للموقف؟ هل هذه فرصة للتسامح مع شىء حدث دون أن أفهم وقتها دقته وتعقيده؟
***
ها أنا أجمع قطع الأحجية، بدأت تظهر لى الصورة، أضع القطع المستبدلة وتلك التى أخذتها من غيرى. أقف إذ أحتاج بعض المسافة حتى أرى المشهد بعد أن اكتمل: أهذا حدث فعلا؟ أم أننى ومع مرور السنوات ومرورى على الأماكن ربما سمحت لبعض الفوارق البسيطة أن تتسلل وها هى تلين القطع الحادة فلا تؤذينى كما تصورت أنها فعلت من قبل؟
***
أفك القطع وأرميها فى العلبة. أغلق العلبة وأهزها فأسمع طرطقة القطع. أسمع أيضا أصواتا من أماكن وأزمنة كثيرة، هتافات وكلمات حب أتعرف على بعض أصحابها وأتوقف عند بعض آخر إذ لا تحضرنى أسماءهم. أضع العلبة على الرف فى خزانتى، تنادينى ابنتى. لم أنتبه إلى دخولها، ها هى تجلس على سريرى تردد الأغنية ذات الكلمات المعقدة وأرددها أنا معها. تفتح ابنتى يدها لترينى قطعة من أحجيتى فيها صورة طفلة تردد الأغنية نفسها فى مكان وزمن آخر، لا يهم أين ومتى.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات