لا يوجد فى اللغات الأجنبية، أو على الأقل فى اللغات الأجنبية الأكثر ترجمة كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، كلمة مرادفة لكلمة «غربة»، والتى شكلت فى الأدب العربى حقلا كاملا من الأعمال الشعرية والنثرية والسيكولوجية والدرامية والموسيقية. فـ«غربة» كلمة فريدة فى وصفها لحالة خاصة جدا من الشعور بالبعد والإقصاء الجغرافى الممزوج بحنين لمكان بعينه نسميه الوطن.
للكلمة فى المعجم الإنجليزى عدة معانٍ قريبة لأجزاء من المعنى باللغة العربية، ولكن لا توجد كلمة واحدة تحتوى على ذلك الشعور بالفقدان وعدم إمكانية استبدال وطننا بمكان إقامتنا الحالى، أو ذلك الشعور بهواء بارد يلفنا فتتجمد أطرافنا، رغم مضينا فى تفاصيل يومية كالعمل وإعداد الطعام والقراءة وتوصيل الأولاد إلى المدرسة.
لا يوجد باللغة الفرنسية، والتى هى لغة غنية جدا بتعابير توصيف المشاعر لا سيما شعور النوستالجيا، كلمة تلم فى بضعة حروف ذلك الشعور بالوحشة وبعدم التواصل رغم وفرة الأصدقاء، أو بعدم القدرة على الجلوس فى مكان واحد، فكأننا نضغط على شىء لإدخاله فى علبة هى ليست علبته أساسا.
فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية كلمات مرادفة للحنين أو للهجرة أو للاغتراب والرهبة أو للوحشة، لكن لا مرادف لكلمة غربة ببعدها النفسى والجغرافى. وفيما يحتار بعض المسافرين عموما بتوصيف مشاعرهم حين يطول الغياب ويشتاقون لما هو مألوف، تجدهم يذكرون أشياء صغيرة يشتاقون لها، غالبا ما تكون انطباعات أكثر مما هى أشياء ملموسة، فتسمع عن رائحة التراب بعد المطر وصوت الجارة وهى تنادى على البائع فى الشارع، أو رائحة الطبخ تملأ أنف أحدنا وهو يدخل البناية التى يقطن فى إحدى شققها، فيتساءل مَنْ مِن الجيران سوف يأكل الكبة المقلية التى تملأ رائحتها المدخل.
***
الشعور بالغربة ليس أبدا تقليلا من دفء الصداقات ومساندة الجيران، ولا علاقة له بحصول أحدنا على جنسية أخرى أو إقامة قانونية فى بلد جديد، فالشعور يختفى ويظهر بشكل هو على الأغلب غير عقلانى ولا منطقى، قد يرتبط بحادثة أو ذكرى معينة مثل عيد ميلاد قريب لنا رحل هو الآخر، أو طبخة نتذكر بسببها طاولة كبيرة اجتمعنا من حولها مع أحباء لم نرهم منذ سنوات. الشعور بالغربة يظهر فجأة فيمسك بنا دون أن نكون جاهزين لاستقباله، تنهار فجأة أساليب الدفاع لدينا، بعد أن نكون قد صرفنا عليها طاقة عقلية وعاطفية كبيرة فبنينا من حولنا جدارا يفصلنا عن بيتنا هناك، واستندنا إلى أصدقائنا هنا ليمدونا بالقوة. الشعور بالغربة يأتى فى رائحة البابونج المغلى، فيذكرنا بالجدة التى كانت تداوى بالبابونج كل شىء، الشعور بالغربة يأتى مع نغمات على العود نسمعها فى مدخل فندق، فتنقلنا إلى ليلة صيف اكتشفنا فيها أننا نحب الموشحات الحلبية، على عكس ما كنا نقوله لسنوات قبل ذلك.
مزيج من الحزن والشوق، من الحنين إلى شىء ربما نكون قد صقلناه فى خيالنا اعتمادا على واقعة محددة، فأجدنى أتساءل أحيانا عن كلمة لم أعد أتذكرها حتى أنقلها لأطفالى الذين أصروا أن يتحدثوا معى باللهجة الشامية، حنين إلى مكان ربما لم ندرك وقتها كم كنا نحبه، فجلدناه مرارا وعايرناه وعاتبناه حتى بتنا اليوم نندم على قسوتنا تجاهه، كما نندم على كلمات خرجت منا نعاتب فيها أحد والدينا الذى كان يومها فى شبابه، أما اليوم فنحن نتمسك بوجودهما معنا ونريد لهما أن يبقيا معنا حتى يطفئا مائة شمعة.
«الغربة متل مرة الأب، بعمرها ما بتصير أم» يقول المثل السورى، وفى ذلك إجحاف لبعض ممن أصبحن أمهات رغم عدم حملهن لطفل، وإجحاف لبلاد احتضنت الغريب، ولأصدقاء فى تلك البلاد عاشوا معنا جميع مناسباتنا وعوضونا عن بعدنا عن بيوتنا. الغربة ليس تقصيرا من بلدنا الجديد، ليس قلة حب من أصدقائنا، فهذا هو لب الموضوع: الغربة هو حنين إلى مكان أو إلى زمن لا نستطيع الوصول إليه فى هذه اللحظة تحديدا إلا فى خيالنا وعبر مشاعرنا.
***
ثم تشرق الشمس فتذيب بعض الجليد فى داخلنا، ونجد أنفسنا جالسين فى حديقة مع أشخاص دخلوا قلوبنا وسكنوها، نخرج من جسدنا لننظر إلى المجموعة من بعيد فنرى أنهم يلتفون حولنا كما تحضننا أشجار الحديقة فتحمينا من يوم مشمس، أدخلنا هؤلاء الأصدقاء بيوتهم وشاركونا حياتهم. نحن الآن هنا، قد لا نعود إلى هناك، قد يظل ذاك الهناك فى قلبنا وفى ذاكرتنا، أو قد نعود ويكون قد تغير بحيث نكاد لا نعرفه، فنشعر بالغربة حتى ونحن هناك. فى الغربة يكبر الوهم ونعيد تشكيل الصورة فى ذهننا بشكل يناسب قصتنا كما نتصورها، وليس بالضرورة كما حدثت. وبينما يتخابط الموج فى رأسنا وكأنه بحر يوم عاصف، تربت على رأسنا صديقة تظهر فجأة قربنا، تبتسم فيهدأ البحر داخلنا. ننظر إليها ونفهم معنى أن الأصدقاء وطن فى الغربة.
كاتبة سورية