بسرعة قبل أن نتأخر على جرس المدرسة. بسرعة قبل أن يبدأ الاجتماع. بسرعة قبل أن أحرق ما أطبخه اليوم. بسرعة قبل يغلق البقال الباب ونبقى بلا حليب. بسرعة قبل أن تغادر صديقتى البلد دون أن أودعها. بسرعة قبل أن ينتهى اليوم. بسرعة قبل أن يطلع الفجر. بسرعة قبل رمضان. بسرعة قبل نهاية السنة.
• • •
يبدو لى أن اليوم والأسبوع والشهر والسنوات هى مواعيد تسليم قد أتأخر عليها كلها إن لم أسرع فى اللحظات الأخيرة. يبدو لى أن الحياة، أو حياتى، تشبه الأرض التى يركض عليها متسابقون فى مباراة رياضية، عليها خطوط حين يمر فوقها العداء يكون قد انتقل من مرحلة فى السباق إلى المرحلة التالية.
• • •
زارتنى مرة صديقة تكبرنى خبرة فى الحياة فلاحظت أننى أبدأ كثيرا من جملى وقراراتى بكلمة «بسرعة» وتعجبت من ضغط أفرضه على نفسى وعلى من حولى. أسمع طبعا عن إيقاعات كانت أكثر دلالا وحياة كانت أكثر متعة بعيدا عن إيقاع الطبلة التى يبدو أنه إيقاع العصر، فأتخيل الإيقاع الأبطأ كما الصور القديمة، من نسج الخيال والشجن أكثر منه حقيقة. هل عاش فعلا من سبقنا حياة أبطأ؟ هل تمشوا بدل أن يركضوا؟ هل تأملوا تفاصيلهم اليومية بإمعان وتفادوا أخطاء قد أقع فيها بسبب العجلة؟ أم أن التأمل يأتى مع العمر، حين يقف أحدنا فى منتصف الطريق وربما منتصف حياته ليسأل نفسه إن كان سيستمر فى السباق؟ السؤال أصلا فيه الكثير من الترف، إذ من منا تسمح له ظروفه أن يتوقف؟ بين الالتزامات المادية والعائلية وبين الطموح المهنى والجرى خلف لقمة العيش، من يملك ترف التوقف والتأمل وتغيير المسار؟
• • •
لذا فالمسار هو غالبا مسار السرعة، الخط السريع الذى لا يحتمل التوقف، فمن يتوقف قد يدوسه من خلفه. خط السرعة لا يرحم، يزدحم فوقه الملايين، نتحرك غالبا بقوة الدفع التى نخلقها كجماعة، نتأفف من الآخرين لكننا الآخرين! نخرج إلى الحياة العملية كمن تفتح أمامه بوابة صغيرة فنقفز إليها جميعا دون تفكير ونجرى.
• • •
لا أدعى أننى تعلمت أن أبطئ، أنا كفأر التجارب أجرى على عجل مثبت لا أعرف كيف أوقفه. لا أدعى أننى أعرف كيف أعيش خارج هذه المصيدة، مصيدة الإيقاع السريع، ففيها الكثير من الإثارة والمغامرات، وفيها وقوع ونهوض ثم وقوع، ننفض الغبار من على الثياب ونلاحظ الكدمات على الجسد، ثم نرى الجسد يتعافى فيستمر بالجرى فوق العجلة، تماما كفأر التجارب.
• • •
بسرعة وإلا قد أقع، بسرعة وإلا قد يفوتنى القطار... بسرعة وستفوتنى الحياة فأجد أن من أحب رحلوا سواء إلى عالم آخر أو إلى بلاد أخرى وقد ودعتهم فى حفلة وصلتها بسرعة قبل أن تنتهى. أسمع ممن سبقونى أن الحياة تمر بلمح البصر، وتصبح شريطا كشريط السينما هو شريط للذكريات يعودون إليها للتأكيد أنهم اليوم حصيلة تجارب سنوات طويلة يتمنون لو أنها مرت ببطء أكثر.
• • •
أسمع من كثيرين أن حياتهم مرت بلحظات، أفهم ما يقولونه إذ أننى فى منتصف الحياة، منتصف رحلات العمل والأمومة والصداقات. أفهم نصيحتهم أن أحاول أن أبطئ ولا أعرف ما يعنى ذلك. أتخبط بين إيقاع اصطادنى وأبقانى رهينة داخله وبين ملاحظتى أن ابنى الأكبر أصبح مراهقا وقد يبدأ بشق مسار قد لا أكون جزءا منه على الأقل فى سنواته الأولى.
• • •
لا أعرف إن كان الإبطاء فعلا أمرا ممكنا، لكنى صرت أخيرا أكثر ملاحظة للتغييرات من حولى، صرت أتوقف للحظات أسأل نفسى فيها ماذا لو رحل شخص أحبه؟ هل أخذت ما يكفينى من الحب أو الصداقة فأعود إليها فى حال الغياب؟ ماذا لو رحلت أنا نفسى رغم خططى ومواعيد التسليم التى وضعتها لنفسى حتى عامى الخامس والثمانين؟ هل خلقت ما يكفى من الذكريات لمن حولى، لأولادى بشكل خاص، يكفيهم للتعامل مع غيابى؟
• • •
هى سنوات أعرف أنها ستمر بسرعة قبل أن أنتبه أنها فلتت من بين شبكتى كما تمر الماء فى شبكة الصياد. ها أنا أرمى شبكتى لأمسك الوقت لكنه يهرب. لم أتعلم شيئا من الصياد وممن سبقونى: لا شبكة للوقت، ينزلق بمنتهى الاستهتار، لا يكترث بمشاعرى ولا يهمه السباق الذى حشرنى فيه. أشد الشبكة فتخرج مليئة بالصور، أعياد الميلاد وحفلات المدرسة والشغل، بيوت تنقلت بينها ومدن احتوتنى وأعطتنى أوطانا بينما كنت أبكى البعد والغربة.
• • •
ليس الهدف من هذه السطور أن أضفى طابعا دراميا على هذا العامود، إنما أنا فعلا أسأل ما الذى يبقى فى مواجهة الغياب؟ تبقى ذكريات أريدها أن تكون ملهمة ويمكن سردها بمرح. أريد شريطا فيه أعياد ميلاد وكعكات يزداد عدد شموعها كل سنة. أريد فساتين جديدة كل عيد، وعيدية لا أهتم لقيمتها إنما أريدها أن تكون قصة يحكيها أولادى. أريد طاولة سفرة، بل طاولات، يجتمع حولها ناس تكتسب وجوههم خطا حول العيون كل سنة وها هم يعودون فنحكى فى السياسة والشأن العام الذى لا يتغير. أريد قصصا بسرعة... قبل أن تنتهى القصص.