فى مؤشر الديموقراطية الذى أصدرته مجلة «الإيكونومست» عن وحدة المعلومات لديها فى عام ٢٠١٥، كان أداء معظم الدول ذات الأغلبيات المسلمة بائسا إلى أقصى حد يمكن تخيله! فمن قائمة ضمت ١٦٧ دولة تذيلتها كوريا الشمالية باعتبارها الأكثر ديكتاتورية، وتصدرتها السويد باعتبارها الأكثر ديموقراطية، جاءت معظم الدول ذات الأغلبيات الإسلامية فى مراتب متأخرة للغاية! فكان الأفضل أداء على الإطلاق دولة إندونيسيا ولكنها جاءت فى مرتبة متوسطة حيث احتلت المركز الـ٦٥، فيما جاءت بنجلاديش ــ ثانية ــ فى المركز الـ٧٥ وماليزيا فى المركز الـ٨١ ولبنان فى المركز الـ٨٥، أما تركيا فقد واصلت التراجع منذ أن وصل أردوغان إلى قصر الرئاسة بها فى عام ٢٠١٤ ووصلت إلى المركز الـ٨٨! أما بالنسبة لدول أخرى تعد حكوماتها دينية؛ فتأتى إيران فى المركز الـ١٣٩ والسودان الـ١٤١ والسعودية الـ١٥٩!
يأتى السؤال ببساطة: لماذا تشهد الدول ذات الأغلبية المسلمة هذا التراجع على مستوى الديموقراطية؟ وهناك إجابتان: الإجابة الأولى أن الإسلام هو السبب فى التراجع على مؤشرات الديموقراطية؛ فالأخير بالضرورة ضد الديموقراطية! والإجابة الثانية أن الإسلام برىء من الديكتاتورية وأن السبب هو الحكومات العلمانية التى تحكم الدول الإسلامية وتقمع الإسلاميين!
الإجابة الأولى معقدة، فهناك دول وتنظيمات إسلامية أعلنت تطبيق الشريعة (أو ما يعتقدونه كذلك) وانتهت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والحريات وعادت الديموقراطية! فدول مثل إيران والسعودية والسودان على سبيل المثال وليس الحصر لم تتمكن من تحقيق أى تقدم يذكر فى مجال الحقوق والحريات على الرغم من أنها رسميا تطبق الشريعة! كما أن الحركات الإسلامية التى استخدمت العنف والإرهاب وحجب النساء عن الظهور العام ومنعتهم من التعليم واضطهدت كل أشكال الفن والإبداع وتورطت فى قتل المسلمين وغير المسلمين، كلها كانت تدعى أنها تطبق صحيح الدين من أول طالبان مرورا بالجماعة الإسلامية والقاعدة وحركات التكفير والهجرة وصولا إلى داعش! لكن فى الوقت نفسه هناك دول أخرى مثل إندونيسيا وبنجلاديش وماليزيا وتركيا (قبل أن يصبح أردوغان رئيسا لها)، ممن تمكنوا من تحقيق نجاحات ديموقراطية نسبية خلال العقد الأخير.
كذلك فإن الإجابة الثانية بها قدر من الصحة، فالحكومات التى أدعت العلمانية فى العالم الإسلامى كانت باستثناءات محدودة للغاية نماذج أخرى للقمع والاستبداد والتغول على الحقوق والحريات! فعلمانية تونس لم تكن سوى تغول على الحريات والتعددية، وعلمانية باكستان لم تكن سوى تحالفا بين النخب والجيش على حساب الديموقراطية، والقوميات العلمانية فى مصر وسوريا والعراق لم تحقق بدورها أى نجاح يذكر على مؤشر الحريات! بل أنه وفى الخبرات المحدودة التى تمكنت فيها بعض الجماعات والأحزاب الإسلامية من الوصول إلى السلطة بانتخابات تعددية فقد تم الانقلاب عليها! حدث ذلك فى الجزائر (١٩٩١) وفى فلسطين (٢٠٠٦) وفى مصر (٢٠١٢ــ٢٠١٣)! لكن هذه الإجابة تظل ناقصة أيضا! ففى الحالة المصرية مثلا لم يتمكن الإخوان خلال سنتين من التواجد فى الحكم من عقد صفقة سياسية واحدة مع التيارات غير الإسلامية أو حتى الوفاء بالتعهدات الثورية، وانخرطوا فى نفس خط السياسات غير القابلة بالتعددية! كما أنه وكما أوضحت مسبقا فإن التجارب التى وصل فيها إسلاميون إلى الحكم ولم يتعرضوا لانقلابات (السودان، ايران، السعودية) فقد كانت الشريعة الإسلامية هى الأداة الرئيسية التى استخدموها للتمييز ضد غير المسلمين!
أين المشكلة إذن؟
الدول الإسلامية محصورة بين ادعاءين كلاهما أخذ فرصة ولم يثبت أى نجاح أو تقدم ولم ينتصر لحريات ولا لتعدديات ولا لحقوق ولا لعدالة! ادعاء «الإسلام هو الحل» فشل بوضوح من الناحية السياسية فالإسلام لم يكن الحل فى افغانستان طالبان ولا فى داعش الشام ولا فى التحالف العكسرى الإسلامى فى السودان ولا فى حكم آيات الله فى إيران ولا حتى فى المملكة السعودية! كما أن الادعاء الثانى «العلمانية هى الحل» ثبت فشله بنفس القدر! فعلمانية شاه إيران أو بورقيبة فى تونس أو عبدالناصر فى مصر أو برويز مشرف فى باكستان أو صدام فى العراق وعائلة الأسد فى سوريا لم تأتى سوى بأسوأ الممارسات القمعية!
***
الحل باختصار هو فى التعلم من خبرات التحول الحديثة فى دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية! لا يمكن أبدا استبعاد الدين بشكل تام لا من السياسة ولا من الدولة ولا من الحياة العامة! أسطورة (أترك دينك فى البيت بينما تغلق الباب للنزول إلى العمل) لا علاقة لها بأى ديموقراطية أو حرية! وبنفس القدر، أسطورة «العودة إلى الله كمخلص للعباد والبلاد» تصلح فقط فى الخطب الدينية الحماسية لتأجيج المشاعر الدينية ودفع الناس إلى ترك المعاصى ولكنها لا تصلح لحكم الدول والشعوب فى القرن الحادى والعشرين! ما يصلح هو ما فعلته دول الموجة الثالثة للديموقراطية من خلال «ضبط» العلاقة بين الدولة والدين وهذا الضبط يعنى:
أولا: صياغة دستور دائم بعد حوار مجتمعى حقيقى وشامل يؤكد فى صدره على احترام الهويات والمؤسسات والرموز الدينية جميع دون تمييز بين دين وآخر مع حق غير المتدينين فى التمتع بكافة حقوق المواطنة.
ثانيا: إعطاء الحق للأحزاب «ذات الهوية الدينية» للعمل السياسى بثلاثة شروط، الأول أن تنص فى بيان تأسيسها وكل مواثيقها على عدم التمييز بين المواطنين على أساس النوع أو الدين أو العرق أو الجهة، وثانيها أن تنفصل تنظيميا عن أى عمل دعوى، وثالث هذه الشروط أن تلتزم فى كل خطاباتها الرسمية ودعايتها الانتحابية وأفعالها السياسية بحقوق المواطنة وعدم التمييز أو الحض على الكراهية ومن يخالف أيا من هذه الشروط الثلاث تحال انتهاكاته فورا للقضاء الذى يمثل الجهة الوحيدة صاحبة الحق فى عقاب الأحزاب المخالفة بدرجات مختلفة تبدأ من التجميد أو المنع وصولا إلى الحل.
ثالثا: من حق المواطنين التعبير عن قناعاتهم الدينية فى المجتمع سواء تعلق هذا التعبير بالملبس أو المأكل أو المشرب أو التعبير السياسى والمجتمعى وغيره، ولكن بشرط أن يكون ذلك دون تحريض على كراهية دين الآخر فضلا عن احتفاظ غير المتدينين أو غير المؤمنين بالحق فى ذلك دون أن ينتقص ذلك من حقوق مواطنتهم شيئا.
رابعا: وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية، فمن حق كل مواطن أن يقرر ما إذا كان يرغب أن تحكمه شرائع دين معين أو أن يختار مدنية حياته الشخصية؛ وهو ما يعنى أن يكون من حق أى مواطن أن يقرر أن تكون أمور الزواج والطلاق والميراث وغيرها وفقا لشريعة المسلمين أو لشريعة غير المسلمين كالشريعة اليهودية أو المسيحية أو أن يقرر بإرادته الحرة أن تحكمه قوانين مدنية غير دينية فى هذه الأمور جميعا، ولا يترتب على أيا من هذه الخيارات أى انتقاص لحقوقه المدنية والسياسية.
خامسا: أن تلتزم الدولة وفقا للدستور بعدم لعب أى أدوار دينية ولكن يكون لها دورا سياسيا يتمثل فى التعهد بأن يتمتع كل المواطنين بنفس الحقوق والواجبات أيا كان دينهم. وبناء على ذلك لا يحق للدولة التدخل فى عمل الكنائس أو المساجد أو غيرها من دور العبادة إلا اذا ما أقدمت هذه المؤسسات على مخالفة القوانين والدستور؛ فهنا تتدخل الدولة عن طريق مؤسستها القضائية مع الإقرار بحق المؤسسات الدينية فى ممارسة أدوار اجتماعية واقتصادية وسياسية بنفس الشروط السابقة والتى يأتى على رأسها عدم التحريض على العنف أو الكراهية!
***
يجب أن نفهم أن الصراعات التقليدية بين الدولة الدينية والدول العلمانية لم تعد تجدى، يجب أن نتحرك كما تحركت دول كثيرة نحو الأمام، وهذا التحرك لن يتم إلا بعد أن ننسى هذه الجدلية التقليدية ونقرر أن نمضى قدما فى طريق الحرية والتعددية والحقوق والعدالة بين المواطنين جميع بلا تمييز!
تتبقى هنا مجموعة من التساؤلات، كيف نفعل ذلك على أرض الواقع فى مصر؟ كيف نتعامل مع الأزهر والكنيسة؟ مع المسلم وغير المسلم؟ مع مادة الشريعة الإسلامية؟ مع مادة منع الأحزاب ذات الأساس الديني؟ مع قوانين الميراث والطلاق والزواج؟ مع التمييز ضد غير المسلمين فى الوصول إلى بعض المناصب السياسية أو الأمنية أو بعض المواقع العامة؟ هذا ما أحاول أن أتناوله لاحقا كختام لهذه السلسلة عن العلاقة بين الدين والدولة.