نشر موقع رصيف 22 مقالا للكاتبة مرام مصاروة، توضح فيه أسباب الهوس الإسرائيلى بفاكهة البطيخ، فهى تمثل رمز العلم الفلسطينى والمقاومة، كما تناولت كاتبة المقال بعض المواقف الدالة على هذا الهوس مؤكدة أن حياة المواطن الفلسطينى تتأرجح بين التراجيديا والكوميديا... نعرض من المقال ما يلى:
فى العام 1984، نشرت صحيفة «حدشوت» الإسرائيلية الخبر التالى: «أصدرت المحكمة المركزية فى نتانيا حكما على محمد تاية، الملقّب بمحمد بطيخ، من قرية قلنسوة فى المثلث، بالسجن لمدة خمس سنوات، بتهمة بيعه بطيخا يحمل ألوان منظمة التحرير الفلسطينية فى الكشك الذى أقامه فى مفرق بيت ليد. تم القبض على محمد من قبل الوحدة الخاصة لمكافحة الإرهاب، بتهمة بيعه البطيخ والذى يحمل ألوان العلم الفلسطينى، أى الأخضر، الأحمر، الأبيض والأسود، وذلك وفق قانون منع الإرهاب. وقد عرض المدعى العام اللافتة التى قام محمد بتعليقها على كشكه، حيث حملت اللافتة صورة لسكين وبطيخة، وكتب عليها: عالسكين يا بطيخ. وطلب المدعى العام بأن تعاقب المحكمة المتهم أشد العقاب، وذلك لدعمه للإرهاب وبسبب رغبته بالقضاء على اليهود، وفق تعبيره، وطعنهم بالظهر. وافقت المحكمة على طلب المدعى العام وحكمت بالسجن خمس سنوات على المتهم وغرامة قيمتها 50.000 شيكل».
قد يبدو الخبر للوهلة الأولى كدعابة أو نكتة بعيدة عن الواقع، لكن، وعلى ما يبدو، فإن حياة الفلسطينى تتأرجح بين التراجيديا والكوميديا، بل إن الكوميديا أصبحت أحيانا أداة تفاعل وتأقلم للحظات الحرجة فى التاريخ الفلسطينى، فمن خلال استخدام الفكاهة يعبر الإنسان الفلسطينى عن تفوّقه وعن الانتصار على الخصم، مقارنة بساحة المعركة.
تنبع الدعابة إذن من رغبة الفلسطينى فى الشعور بقوّته، وربما بخصاله الحميدة مقارنة بالمحتل، وهذا ما حدث بعد نكسة حزيران عام 1967، حيث حظرت الحكومة الإسرائيلية جميع العروض العامة للعلم الفلسطينى وألوانه، فأى عرض علنى للعلم، من المنشورات إلى الإعلانات وحتى الصور الفوتوغرافية القديمة، كان يودى إلى السجن أو إلى ما هو أسوأ.
• • •
فى نهاية السبعينيات، أغلقت القوات الصهيونية معرضا فنيا رئيسيا فى رام الله، واستدعت ثلاثة فنانين: نبيل عنانى، سليمان منصور وعصام بدر، لإدراجهم ألوان العلم الفلسطينى فى أعمالهم الفنية. قام قائد الشرطة الإسرائيلية حينها بتهديدهم تارة ومحاولة رشوتهم تارة أخرى لنزع الطابع السياسى عن فنّهم. كان يحاول إقناعهم بعدم القيام بأى فن سياسى، فطرح حينها الفنان عصام بدر سؤالا: «ماذا لو رسمت وردة بألوان العلم، هل يعتبر ذلك مخالفا لتعليماتكم؟»، فأجابه الضابط: «ممنوع طبعا، ممنوع رسم أى شىء يحمل ألوان العلم ولو حتى بطيخة».
لا بد أن اجتماع الألوان الأربعة للعلم الفلسطينى فى عمل من ألذّ وأطيب أعمال الطبيعة الصيفية شكّل حالة من الهوس المرضى لكل دلالة على الوجود الفلسطينى، حتى لو كان ذلك بطيخة، فالاحتلال قام بتسمية الفلسطينى بالعربى تارة والإرهابى تارة أخرى، وغيّب بل منع كل ما هو فلسطينى بهويته، إيمانا وقناعة بأن الوقت كفيل بمحوها. إلا أن وجود هذه الفاكهة أصبح وجودا مؤرقا للإسرائيلى، وخصوصا أنها فاكهة الصيف المحببة والأكثر شعبية وانتشارا لدى الفلسطينيين، على مدى المائة عام الأخيرة على الأقل. ففلسطين كانت مركزا مهما، بسبب جغرافيتها وتربتها، لزراعة وتصدير البطيخ.
ولا يزال المزارعون يعلقون على الحجم المذهل للبطيخ الفلسطينى وشعبيته كصادرات إلى لبنان والأردن وسوريا ومصر ودول أخرى، وكان يقام كل عام بقرية الحرم ــ سيدنا على المهجرة عام 1948، مهرجان البطيخ السنوى، الذى كان يجمع مئات المزارعين من جميع أنحاء فلسطين لعرض منتوجهم من البطيخ. استمرّ هذا المهرجان حتى نكبة عام 1948، ومعها جلبت سلطات المستوطنين شركات البذور الخاصة بها وأغرقت السوق، وأخرجت الفلسطينيين من المنافسة، واحتكر الإسرائيليون زراعة البطيخ.
إذن، أصبح لهذه الفاكهة تاريخ سياسى لدى الفلسطينى والإسرائيلى على السواء، فلدى الإسرائيلى شكلت هذه الفاكهة حالة هوس، وأصبحت رمزا للعلم الفلسطينى بل للوجود الفلسطينى، أما لدى الفلسطينيين فيُعتبر البطيخ رمزا للمقاومة ونوعا من أنواع الحراك الفنى ــ السياسى، بألوانه التى تعكس العلم الفلسطينى، ويمكن رؤية صور البطيخ على الجدران الحجرية فى صالات العرض فى رام وبيت لحم. فعلى مدى عدة عقود، أصبح البطيخ الفلسطينى تعبيرا عاما عن الفخر الثقافى فى الأعمال الفنية التى تمثل النضال ضد الفصل العنصرى الإسرائيلى. فى العقود التى تلت ذلك، استعاد الفلسطينيون البطيخ كفن احتجاجى ضد الاحتلال الإسرائيلى.
• • •
وفى أعقاب الانتفاضة الثانية، ابتكر الفنان الفلسطينى خالد حورانى سلسلة تحت عنوان «علم جديد لفلسطين»، والتى ظهرت فى أطلس فلسطين الذاتى عام 2007. وقدم فيها البطيخة كعلم هذه المرة وليس مجرّد ترميز له، اعتمادا على القصة التى سمعها من زملائه الفنانين وعلى تاريخ قصة البطيخ مع الاحتلال. وقد أصبح هذا العمل الساخر يحظى باهتمام شديد نظرا لقوته الاحتجاجية والتعبيرية ولبساطته الفنية أيضا.
حورانى هو المدير السابق لدائرة الفنون الجميلة فى وزارة الثقافة الفلسطينية، وشخصية محورية فى تنشيط الخطاب الفنى فى فلسطين، والمؤسس والمدير للأكاديمية الدولية للفنون فى فلسطين. رسم نسخة كبيرة من البطيخ فى معرض فى تولوز، فرنسا، وظهرت أشكال مختلفة فى دارة الفنون فى عمان، الأردن، ومركز الفن المعاصر، غلاسكو. يقول: «العلاقة بين الفن والسياسة بفلسطين علاقة وثيقة، لدرجة أن الفن قد يكون مسيّسا أكثر من السياسة، فللفن فى فلسطين تاريخ وباع طويل فى التعبير ومحاكاة واقع الفلسطينى، وعمل البطيخة مثال حى على ذلك. حيث تعاملت الأوساط الفنية ووسائل الأعلام وشبكات التواصل الاجتماعى على زيادة الاهتمام بهذا الرمز وطريقة للتحايل على المنع، ولم يتم استخدامها وتجنيدها من قبل الناس فى فلسطين فقط، وإنما من قبل الناس والمتضامنين فى كل مكان».
• • •
انعكس ذلك بوضوح فى حملات التضامن الضخمة وغير المسبوقة مع فلسطين ونضالها العادل. فى حملة «أنقذوا الشيخ جراح» الأخيرة، أدى تجديد التقدير لعمل حورانى إلى ظهور البطيخ الفلسطينى الآن كعلم فى تصاميم الجرافيك واللوحات الجدارية والرسومات والقمصان واللافتات. فيُظهر تصميم بسيط للفنان اليافاوى سامى بخارى، شريحة على شكل خريطة فلسطين. فى روتردام، علّق طلاب مدرسة الفنون لافتة جمعت بين بطيخ حورانى ورينيه ماجريت، بعد أن أسقطت الشرطة لافتة أكثر وضوحا احتجاجا على التطهير العرقى الإسرائيلى. كما أخذت بطيخة حورانى شكلا جديدا، حتى تحولت لأيقونة فنية ــ سياسية فى مواجهة مستمرة مع الاستعمار الاستيطانى والفصل العنصرى، كأحداث الشيخ جراح بالقدس، فأصبح حمل شريحة من البطيخ الطازج، أو رفع علم يحتوى على شريحة من البطيخ فى الخارج، عملا احتجاجيا.
وفى ظل الرقابة التى تفرضها شبكات التواصل الاجتماعى، أخذت البطيخة أبعادا أوسع، وأصبحت تقليدا جديدا على الإنترنت، يوحّد الفلسطينيين فى جميع أنحاء العالم، ويستمد التأثير من أولئك الذين حاربوا من أجل حرية التعبير طوال أواخر القرن العشرين.
يعقب حورانى على هذه التحولات: «بالنسبة لى، كان الأمر مفاجئا نوعا ما. حيث كانت البطيخة مجرّد مشروع من أحد مشاريعى، والذى لم يكن واسع الانتشار كما هو الآن»، ويضيف: «إنه نوع فريد من أنواع التضامن والتفاعل الإنسانى والسياسى، وهو تفاعل قوى الوقع للغاية. حينها بصراحة، لم أعرف كيف أتعامل معه. مع هذا الاهتمام الكبير المفاجئ الذى رافق هبّة الشيخ جراح الأخيرة، بعض الناس يحصلون عليه كوشم أو دبابيس، والبعض الآخر يصمّمه ضمن أزيائه، وآخرون على الأعلام، ووسائط مختلفة. أشعر بالسعادة فى أن أكون طرفا فى هذه القصة، ولأن عملى الفنى من باب السخرية قام بدوره ولو بعد حين، ألا وهو لفت الانتباه إلى القضية الفلسطينية وتوسيع التضامن مع الشعب الفلسطينى».
• • •
قبل أسابيع قليلة، وبالتحديد بـ 18 مايو 2023، أقرّ البرلمان الإسرائيلى بقراءة تمهيدية لمشروع قانون يحظر رفع العلم الفلسطينى بالتجمعات لثلاثة أفراد أو أكثر، وصوّت لصالح المشروع 54 نائبا مقابل 16 معارضا. إذا تمت الموافقة على المشروع فى ثلاث قراءات، فسيكون من الممكن فرض عقوبة تصل إلى السجن لمدة عام على أولئك الذين يلوّحون بالعلم الفلسطينى. ويمكن هنا السؤال: هل ستكون بطيخة الحورانى ضمن المحظورات بهذا القانون؟ فذهنية الحاكم العسكرى الفاشية والذى حظر رسم البطيخة هى ذات الذهنية التى تسيّر القيادة الإسرائيلية الحالية، فالطغاة لا يخافون من الذكريات فقط، بل من كل ما قد يثير ذاكرتهم حتى ولو كان بطيخة.
النص الأصلى
https://bit.ly/3CGosPM