عقدت قمة طهران يوم 19 يوليو الجاري، وجمعت رؤساء روسيا، وتركيا، وإيران فى قمة تعقد بصورة دورية منذ 2017. وقد يكون اختيار تاريخها مرتبطا بقمة جدة التى جمعت الرئيس الأمريكى ودول الخليج، بالإضافة لمصر، والعراق، والأردن يوم 16 يوليو الجارى. ولكن بينما جمعت جدة بعض المتناقضات المتمثلة فى سياسات الدول المجتمعة بخصوص الطاقة، ومدى التطبيع مع إسرائيل، فإن قمة طهران جمعت كل شيء غير منطقى يمكن تصوره. حتى من ناحية الشكل، فلقد استغل الرئيس التركى اجتماعه مع الرئيس الروسى على هامش القمة، ليتأخر فى دخول القاعة ويترك الرئيس بوتين فى انتظاره وقد بدا عليه التململ. وكان بوتين قد فعل الشيء نفسه عام 2020 بلقاء جمعهما فى موسكو وأبقى الرئيس التركى فى انتظاره دقيقتين قبل أن يفتح الباب ويسمح له بالدخول، فهل توحى هذه التصرفات بقمة الشركاء أم التناقضات؟
نادى البيان الختامى للقمة الثلاثية، بالحفاظ على وحدة الأراضى السورية، ثم أضاف فى النقطة 12 على «ضرورة الالتزام بالقرارات القانونية الدولية المعترف بها عالميًا، بما فى ذلك تلك الأحكام الواردة فى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة الرافضة لاحتلال الجولان السورى، وعلى رأسها قرارا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 242 و497، اللذان ينظران أيضًا فى جميع القرارات والتدابير التى تتخذها إسرائيل فى هذا الصدد». ولنضع هذه الفقرة أمام نص البيان الختامى لاجتماع مجلس التعاون الخليجى بجدة الذى شهد حضور مصر والعراق والأردن بالإضافة للولايات المتحدة، حيث نصت المادة 13 على «ضرورة تكثيف الجهود للتوصل لحل سياسى للأزمة السورية، بما يحفظ وحدة سوريا وسيادتها، ويلبى تطلعات شعبها، بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن 2254». وشدد القادة على «أهمية توفير الدعم اللازم للاجئات واللاجئين السوريين، وللدول التى تستضيفهم، ووصول المساعدات الإنسانية لجميع مناطق سوريا». هنا غابت الجولان عن بيان جدة وظهرت فى بيان طهران. بينما اتفق بيان جدة وطهران على وحدة أراضى سوريا. فلو كان هذا أو ذاك صحيحا، فلماذا تستمر المواجهات بسوريا؟ أم الاثنان للاستهلاك العربى؟
• • •
هنا نسلط الضوء على قمة طهران ونسأل، هل اجتمعت إيران الشيعية، مع تركيا السنية، فى تناسق وتناغم حول مصالحهما بدون اكتراث للفوارق الأيديولوجية؟ وإذا كان الوضع كذلك فلماذا يغيب هذا النوع من التناسق بين إيران والخليج؟ ثم كيف تتوافق مصالح إيران المؤيدة لسوريا ونظامها، بينما تتوعد تركيا نفس النظام بعملية اجتياح لشمال سوريا؟ وكيف تجتمع إيران مع تركيا ثانى أكبر شريك لإسرائيل فى التصنيع العسكرى، بينما جرى الكشف منذ أسابيع عن إحباط محاولة إيرانية لتصفية شخصيات إسرائيلية على الأراضى التركية؟ ولو سلمنا بأن الدولتين استطاعتا بكل برجماتية القفز على فكرة السنى والشيعى، والتحول للغة المصالح الوطنية، والأمن القومى، فهل بوسعنا السؤال، لماذا استطاعت الدولتان بناء جسور برجماتية بينما عجزت إيران والخليج عن فعل نفس الشيء؟
نفس التناقض موجود فى علاقة روسيا بإيران، فكل الضربات الإسرائيلية التى تنهال على مواقع الحرس الثورى الإيرانى فى سوريا، تمر أمام أعين القوات الروسية المسيطرة على الأرض. وكنا نظن أن روسيا سيكون لها موقف أكثر حزما ضد ضربات إسرائيل لاسيما بعد إسقاط طائرة نقل عسكرى روسية ومقتل 18 عسكريا من قواتها عام 2018. لكن لم يحدث أى تغيير. ثم ظننا أن موقف إسرائيل المنحاز ميدانيا ولوجيستيا لصالح أوكرانيا سيغير الموقف الروسى، لكن لا تزال الضربات الإسرائيلية تنهال على القوات الإيرانية فى سوريا بدون أى رادع روسى، ناهيك عن غياب الردع الإيرانى نفسه. بل تتهم إيران إسرائيل بالوقوف خلف عمليات اغتيال بالعمق الإيرانى، وعمليات تخريب بمفاعلاتها النووية، بدون قدرة إيرانية على الردع. فماذا إذن فى العلاقات الروسية الإيرانية الذى يمكن التعويل عليه؟ لاحظ أن كافة العقوبات الأممية السابقة التى نزلت على إيران كانت بموافقة روسية. والمرة الوحيدة التى عطلت فيه العقوبات هى المرة الحالية بمفاوضات إيران النووية مع الغرب، بسبب تعقيدات خاصة بالموقف الروسى فى أوكرانيا.
لكن ماذا عن تركيا وروسيا؟ تركيا عضو بالناتو، وهو أكبر متربص بروسيا فى أوكرانيا. ووافقت مبدئيا على انضمام فنلندا والسويد للناتو، بعد حصولها على مكاسب افتراضية تقوض من قدرات الأكراد ومعارضى النظام التركى. ويعتبر هذا ضررا إضافيا يلحق بالأمن القومى الروسى بطول الحدود مع فنلندا، فهل تعزز هذا السياسات التركية العلاقات التركية الروسية؟ وفى المقابل تعتبر روسيا من أكبر داعمى الأكراد تاريخيا، وأيضا من أكبر داعمى أرمينيا، والاثنان يمثلان خطرا على مصالح تركيا، كما أن روسيا داعم رئيسى للنظام السورى، ولطالما عملت تركيا على إسقاطه. فماذا يجمع روسيا وتركيا وسط هذه التناقضات؟ والغرب نفسه داعم للأكراد، وحتى لو تحولت فنلندا والسويد مرحليا عن إيواء عناصر معارضة للنظام التركى فإن الغرب يستطيع إيواءهم بأماكن أخرى. ومن ثم تقع تركيا فى موقف لا تحسد عليه. وكل ما بوسعها عمله، هو شق طريقها بين استراتيجية الغرب، وبين استراتيجية موسكو، ولكنها قد تقع بالنهاية ضحية بين الاثنين.
• • •
جانب آخر من التناقضات حول اجتماع روسيا ــ إيران ــ تركيا، يخص تصريحاتهم أثناء القمة، فلقد ركزت تركيا على مقاتلة الإرهابيين، وتعنى بذلك أكراد شمال سوريا والعراق، بينما ركزت إيران على التعاون طويل الأمد، وتعنى بذلك ترجيح الدبلوماسية عن الحلول العسكرية فى سوريا والعراق التى تريد تركيا اجتياح مناطق الأكراد بهما، وإيران مدفوعة بحماية نظامى الحكم بالعراق وسوريا، أما روسيا فقد ركزت على تصدير الحبوب من مناطق القتال فى أوكرانيا. بمعنى آخر، روسيا تركز على تحسين صورتها دوليا، وترسل رسالة للعالم من القمة الثلاثية وتنفى مسئوليتها عن أزمة الغذاء العالمية المتنامية نتيجة لحصار الصادرات من مناطق القتال بأوكرانيا، بل وتفعل ما بوسعها لمواصلة الصادرات لكن الغرب هو الذى يعرقل التصدير عبر تسليح أوكرانيا ومد آجال الحرب.
إيجازا نقول، المصالح التى تجمع روسيا بإيران وتركيا، قد تستمر لبعض الوقت، وتمثل تناغما سياسيا مستمرا منذ عام 2017 ــ موعد انعقاد أول قمة ثلاثية وحتى الآن. هذه القمة ستنجح طالما اجتمعت على مناوئة الغرب، حيث يستغلها كل طرف من الثلاثة بطريقة تخدم مصالحه. وهى مرتبطة بالبرجماتية السياسية التى تخدم أجندة كل طرف. لكنها تصبح بلا معنى إذا توافق أى طرف من الثلاثة مع الغرب، أو عقد صفقة منفردة.
باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية