يذكّر انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان بانسحابها من فيتنام عام ١٩٧٥، كنموذج لفشل استراتيجى لقوة عظمى فى مسألة كانت فى طليعة أولوياتها على الصعيد العالمى. مسألة استُثمر فيها الكثير من الإمكانات على جميع الأصعدة، مع التذكير باختلاف المتغيرات الداخلية والخارجية بين كل من الحالة الفيتنامية والحالة الأفغانية. يفسر البعض قرار الانسحاب الأمريكى الذى كان منتظرا بأنه يندرج فى استراتيجية تقوم على «وضع نهاية لحروب لا نهاية لها». البعض الآخر رأى أن الانسحاب الأمريكى يندرج فى ما يمكن وصفه بسياسة «قلب الطاولة على الجميع»؛ جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين المعنيين. حروب تستنزف الإمكانات دون أن تخدم الأهداف التى قامت لأجلها.
فشلت واشنطن بعد عقدين من الزمن من سيطرتها على أفغانستان وإسقاطها لحكم الطالبان، الذى كان قد استمر لسنوات خمس (١٩٩٦ إلى ٢٠٠١)، فيما يعرف بعملية بناء الدولة فى مرحلة ما بعد النزاع. خصوصية التركيبة المجتمعية الهوياتية (القبلية والعرقية) الشديدة التعقيد لأفغانستان ساهمت بشكل خاص فى إفشال هذه العملية دون استبعاد بالطبع للجغرافيا السياسية لأفغانستان الجاذبة للتدخلات بجميع أشكالها. وللتذكير فإن أفغانستان عرفت بتاريخها بأنها مقبرة الإمبراطوريات، لصعوبة إن لم يكن استحالة السيطرة عليها.
طالبان التى تود أن تقدم نفسها بأنها عادت بعد انتصارها العسكرى بحلة جديدة تقوم باتصالات وحوارات مع شخصيات مشاركة فى السلطة التى أسقطتها، بغية إشراكها فى السلطة الجديدة. وتقول إنها ستسمح للمرأة بالمشاركة فى السلطة. وتؤكد بأنها ستطرح إطار حكم جديد فى الأسابيع القليلة المقبلة. كما أنها تصرح بأن اتفاقها مع الولايات المتحدة، عبر الحوارات المتعددة التى جرت فى أكثر من عاصمة إقليمية، نص على عدم السماح لأى جهة متطرفة باستخدام أراضيها. الأمر الذى يعنى أن طالبان العائدة إلى الحكم لن تجعل أفغانستان مرة أخرى قاعدة للقاعدة أو لحركات إرهابية أخرى «لجهادها العالمى».
وبالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لم يعد الهدف الاستراتيجى الصدام المطلق مع النظام أو القطيعة الكلية معه، بل معيار العلاقات المستقبلية مع النظام العائد يكمن فى سلوكياته الخارجية وليس فى طبيعة السلطة الحاكمة. أفغانستان تحيط بها دول ست (طاجكستان، أوزبكستان، تركمانستان، إيران، باكستان والصين الشعبية) تبقى معنية مباشرة بشكل كبير بالتطورات الحاصلة، كما كانت دائمًا حال الباكستان وخصوصية علاقاتها الأفغانية، أو عبر حلفائها. أفغانستان أيضا كانت دائما محط أولوية استراتيجية عند القوى الدولية والإقليمية المعنية «بالمسرح الاستراتيجى» الآسيوى وخاصة آسيا الوسطى؛ وتأتى فى طليعتها روسيا الاتحادية وتركيا والهند واليابان، إلى جانب بالطبع القوى الغربية التى أشير إليها سابقا. وكانت الطالبان قد أجرت وما زالت تجرى اتصالات مع مختلف القوى الدولية والإقليمية المعنية والمؤثرة بالملف الأفغانى لطمأنة هذه القوى حول طالبان «الجديدة».
وعلى صعيد آخر يرى بعض المراقبين أن هنالك دروسا عديدة بشأن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان تتعلق بمصداقية الاعتماد على دعم الولايات المتحدة كحليف موثوق فى أوقات الأزمات الشديدة. وهذا ما يُقلق بعض حلفاء واشنطن ويدعوهم لإعادة النظر بالرهان الكلى على الولايات المتحدة. كما يرى آخرون أن الطريقة التى تم بها الانسحاب الأمريكى قد يشجع أو يعطى قوة دفع للحركات الإرهابية. كما يرى كثيرون أيضا أن عملية خلط الأوراق بعد التغيرات الناتجة عن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان ستكون له دون شك انعكاسات على الأوضاع فى الشرق الأوسط وعلى الاصطفافات السياسية التى يمكن أن تحصل. إننا أمام لعبة شطرنج جديدة مركزها أفغانستان لن يكون الشرق الأوسط فى منأى عن تداعياتها فى «اليوم التالى».