لا يتوقف الناس كثيرا أمام الانقلابات العسكرية فى أفريقيا، وذلك لأن الصراع على السلطة من الأمور الشائعة فى الدول الأفريقية، لاسيما فى ظل مفهوم عرفى أو تاريخى بغياب التداول السلمى للسلطة. وفى غرب أفريقيا مثلا، جرت 6 انقلابات عسكرية فى آخر 3 سنوات، آخرها فى النيجر. وفى كل مرة ينجح الانقلاب ويرسخ دعائمه أو هكذا نظن ثم يأتى الانقلاب التالى ولو بعد حين. ولكن انقلاب النيجر أخذ مساحة اهتمام من شريحة واسعة من الناس، لأنه يعتبر تجسيدا لعدد من المعانى الرمزية التى يهتمون بها. فمثلا، رفع علم روسيا فى أول مظاهرة شعبية لدعم الانقلاب، وربط الناس بين ما يجرى فى النيجر والمواجهة المحتدمة بين روسيا والغرب. ليطرح هذا الانقلاب ــ فى ظل الصراع الدائر بين أمريكا وروسيا ــ عدة افتراضات حول ما إذا كانت لموسكو يد فى هذا الانقلاب لتقوض دعائم الهيمنة الفرنسية فى غرب أفريقيا، وتخفف ضغط الناتو عليها فى جبهة أوكرانيا.
يكشف التاريخ لنا أن الدول الكبرى عادة ما تلجأ لعمل مناورة ونقل ساحة المعركة إلى جبهة أخرى لتخفيف الضغوط على الجبهة الرئيسية، وأيضا لتحقيق انتصارات سريعة، لما فى ذلك من بالغ الأثر على الروح المعنوية للجيش. فمثلا، عندما تجمد الموقف فى الجبهة الغربية فى الحرب العالمية الأولى، ولم تستطع كل من فرنسا وبريطانيا التقدم أمام صمود ألمانيا، اتخذ لويد، جورج رئيس الوزراء البريطانى، وقتذاك قرارا بتغير أولويات الحرب ووضع تدمير الدولة العثمانية على رأس أولوياته الحربية. ومن ثم قام بتوسيع المواجهة ونقل الجبهة إلى الشرق الأوسط. إثر ذلك أصبحت القوات البريطانية تتقدم عشرات الكيلومترات يوميا من مصر إلى فلسطين إلى سوريا، وعلى التوازى فى البصرة وحتى بغداد والموصل، فى حين لم تستطع التقدم عدة أمتار قليلة على الجبهة الغربية فى ذات الفترة. ولما سقطت القدس، كان ذلك انتصارا معنويا مدويا، بالرغم من عدم أهميتها الاستراتيجية من الناحية العسكرية. بالعودة إلى النيجر، هل يعد هذا الانقلاب خطة روسية لفتح جبهة جديدة أمام الناتو؟ أم أن مسألة النيجر قائمة بذاتها ومنعزلة عما يجرى خارجها؟
• • •
قادة الانقلاب أنفسهم مشغولون بتثبيت دعائمهم فى الحكم، مما يتطلب إحكام السيطرة على الرئيس المعزول، محمد بازوم، الذى لا تتوقف اتصالاته بالغرب. وكان الأمر المتوقع أن تنتفض الجماهير دفاعا عن بازوم، لكن ذلك لم يحدث. وهو أمر لافت للانتباه، فلماذا يغيب الدعم الشعبى عن الرئيس العاشر فى تاريخ النيجر بعد عامين فقط على انتخابه رئيسا بأغلبية 55.7%؟ معظم التحليلات ابتعدت عن كونه أول رئيس من الأقلية العربية التى هاجرت إلى النيجر منذ القرن التاسع عشر من مدينة فزان الليبية. وركزت على طبيعة السياسات المنحازة إلى الغرب التى رفضها الشعب. وهى ليست السياسات التى نادى بها أثناء حملته الانتخابية مثل التوزيع الديمغرافى، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتوفير تعليم أفضل للفتيات، ومكافحة الفساد. وإنما المقصود هو انحيازه للغرب، وحفاظه على القوات الفرنسية والأمريكية العاملة فى بلاده، واستيعاب القوات الفرنسية المطرودة من دول الجوار التى جرى فيها انقلاب مثل دولة مالى. ويبدو أن هذه الأمور لم تكن على هوى الشعب.
إلى ذلك، عبدالرحمن تشيانى، قائد الحرس الرئاسى، الذى قام بالانقلاب يوم 26 يوليو الماضى، ليس غريبا على المشهد السياسى فى بلاده ولا عن غرب أفريقيا. فلقد تقلد منصبه منذ 12 عاما، وساهم فى جهود بلاده لمكافحة الإرهاب، وتعاون مع «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا»ــ أو اختصارا منظمة الإيكواس، والتى تضم 15 دولة فى غرب أفريقيا فى عملياتها لمكافحة الإرهاب. وتشير بعض المصادر إلى أنه تحرك لعزل الرئيس قبل أن يتحرك الرئيس ضده، دون الكشف عن سبب الخلاف بين الرجلين. الشاهد أن الرئيس لم يكن يتصور أن يقف الجيش ساكنا أمام انقلاب رئيس الحرس الرئاسى، ولكن رأى الجيش أن الشعب انحاز لقائد الحرس، والمجلس الذى كونه باسم «المجلس الوطنى لحماية الوطن». وهذا من حسن حظ النيجر، فلو أن جيشها انقسم إلى فريقين ما بين مؤيد ومعارض للانقلاب، لسقطت البلد فى أتون الفوضى.
لكن التدخلات الإقليمية تسببت فى تأزم الموقف، لاسيما من منظمة الإيكواس، والتى من سلطاتها التدخل عسكريا فى الدول الأعضاء لإعادة الحكومة الشرعية. وقام وفد من المنظمة بزيارة النيجر وعمل لقاء مع قادة الانقلاب، لكن لم يسفر عن شىء. لتعلن المنظمة، يوم 19 أغسطس الجارى، على لسان مفوضها للشئون السياسية والسلم والأمن، عبدالفتاح موسى، رفضها مقترح قادة الانقلاب فى النيجر بعمل مرحلة انتقالية لمدة ثلاث سنوات. ولكنها حتى الآن لم تحسم شكل تدخلها العسكرى بسبب الانقسام فى المنظمة. وذلك لأسباب، منها أن النيجر تقع على حدود 7 دول وهى ليبيا، وتشاد، ونيجيريا، وبنين، وبوركينا فاسو، ومالى، والجزائر، التى رفضت جميعها استخدام أراضيها للتدخل العسكرى باستثناء بنين. علما بأن حدود بنين والنيجر هى أصغر حدود النيجر على الإطلاق، إضافة إلى وقوع بنين بين النيجر من ناحية، وبوركينا فاسو ومالى من ناحية أخرى، وهى الدول الأعضاء فى الإيكواس التى شهدت انقلابا تلو الآخر إضافة إلى غينيا، والتى تمثل الحزام الشمالى لدول الإيكواس. وقد تنحصر العملية العسكرية التى يخطط لها الإيكواس فى محاولة إنقاذ الرئيس المعزول. ومن ناحية أخرى، الحديث عن هذه العملية العسكرية يثير المخاوف على حياة بازوم فى ظل استعداد جيش النيجر للتصدى لأى تدخل.
• • •
لا يبدو أن الغرب موحد فى مواجهة انقلاب النيجر، فلقد كشفت التحركات الأمريكية عن تباين فى معالجتها للموضوع حيث تفضل الآن الحلول الدبلوماسية مقابل انحياز فرنسا للحسم العسكرى دفاعا عن واحدة من أهم معاقلها بغرب أفريقيا. وأوفدت الولايات المتحدة مبعوثة خاصة للتفاوض أو لتهديد المجلس العسكرى الحاكم فى النيجر، لكنها لم تستطع مقابلة المجلس، ولم يسمح لها بمقابلة الرئيس المعزول. وبالرغم من ذلك تصر الولايات المتحدة على الحل الدبلوماسى. وقد يرجع ذلك لعدم قدرتها على فتح جبهة عسكرية أخرى إضافة إلى أوكرانيا. ليثير موقف أمريكا إزاء الانقلاب غضب فرنسا، لاسيما بعدما أقر الكونجرس الأمريكى تعيين سفيرة للولايات المتحدة فى النيجر بعد حدوث الانقلاب! هذا وتشير المعلومات إلى أن ثمانية من كبار القادة العسكريين فى النيجر تلقوا تدريبهم فى الولايات المتحدة، ليطرح هذا الموقف تساؤلا حول ما إذا كان ثمة شىء يجرى وراء الكواليس. من المبكر الحكم على تبعات الانقلاب، ولكن الشواهد الإقليمية تؤكد أنه قد يمتد إلى دول أخرى فى غرب أفريقيا، أولها السنغال التى باتت معزولة فى محيطها، ثم تشاد، وساحل العاج، ونيجيريا.