لم ينتهِ بعد هذا الصيف الملىء بالأحداث، والتى تنوعت بين موجات من الحرائق والفيضانات فى الصين وكندا ومناطق متعددة فى أوروبا فى إيقاع متواتر، لم نشهده أو ما يقترب منه، إلا فى السنوات القليلة الماضية. ولم يرد هذا الصيف الساخن أن يغادرنا بدون أن يرسل لنا رسالة أكثر مباشرة فمنذ أكثر من أسبوع كانت المشاهد الآتية من العاصمة اليونانية والمدن الأخرى التى مرت عليها العاصفة دانيال لا تصدق. وكما قال السكان هناك، وفقا لما أكدته التقارير والبيانات التاريخية، فإن هذه الأمطار وتوقيتها ليس مألوفا وكمية الأمطار كبيرة للغاية وطبقا لأحد التقارير سقطت كمية أمطار فى خلال اثنتى عشرة ساعة فقط ما يعادل كمية الأمطار المتوسطة فى عام كامل. وتسببت تلك الشدة المهولة فى خسائر فى الأرواح قدرت فى اليونان بحوالى عشرة قتلى وأربعة مفقودين بينما تسبب الإعصار فى تركيا المجاورة فى مقتل حوالى اثنين وعشرين شخصا، كما تسببت فى خسارة ما يقرب من خمسة وعشرين فى المائة من المحاصيل الزراعية المزروعة فى هذا الوقت. بعد ذلك سمعنا أن العاصفة تقترب من جنوب المتوسط وفجأة توالت المشاهد المأساوية والتقارير المفزعة الواردة من شرق ليبيا وخاصة مدينة درنة. وأخذت المدينة على حين غرة بفيضان ليس له سابقة فى التاريخ الحديث لليبيا ولأن مسئولى المدينة ربما تصوروا ــ كما يتصور العديد من المسئولين فى بلاد المنطقة ــ أن تلك الفواجع التى تحدث فى الدول الأخرى ليست قريبة منا وبالتالى فإن قدرة البنية الأساسية للتعامل مع تلك الأحداث لم تكن محل تساؤل وعمل وتحسين.
• • •
هل ما حدث هو نتيجة مباشرة للتغير المناخى؟ ربما ولكننا بانتظار الدراسات العلمية التى يمكن أن تؤكد أو تنفى أو تثبت مساهمة التغير المناخى والعوامل الأخرى. لكن من المؤسف أننا ــ كمسئولين وجزء كبير من المجتمع ــ نتعامل مع التقارير العلمية الخاصة بالتغير المناخى والعواقب المحتملة بنوع من المماطلة وأتصور أحيانا أن الكثيرين ينظرون إلى الدراسات العديدة والتحذيرات الخاصة بالتغير المناخى كأنه شىء لا يخصنا أو كأنه من ضمن أحداث فيلم أو تقرير مصور عن الخيال العلمى.
يحذر العلماء منذ عدة عقود أننا تجاوزنا فى استهلاك الموارد الطبيعية المتاحة على كوكبنا وهذا لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، كما حذر العلماء من أن التغير المناخى يزيد من حدة هذا الوضع وأننا إن لم نراجع استهلاكنا للموارد الطبيعية ونتصدى لمسببات التغير المناخى ونتكيف مع عواقبه المحتملة فسنكون فى أزمة كبرى لدرجة تهديد الحياة والحضارة على الأرض أى تهديد الوجود الإنسانى كما نعرفه.
نتيجة هذا الحراك العلمى وتراكم الدراسات ولضرورة اتخاذ تدخلات منسقة على مستوى كوكب الأرض وليس فقط على مستوى كل دولة، بدأت مؤتمرات الأطراف فى العام ١٩٩٢ فى الانعقاد سنويا، وحتى الآن يتم تحديث البيانات والدراسات العلمية ويتم بلورة المصطلحات وشرحها كما يتم اقتراح الخطط والمشاريع الخضراء والزرقاء. ويتم أيضا الجدل والنقاش المحتدم حول ما يسمى «العدالة المناخية» وتدافع الدول الأقل نموا. بينما تركز وتهتم الدول المتقدمة بما يسمى «التخفيف» لأسباب عدة منها أنه يخدم مصالحها مباشرة.
وبالرغم من كوننا أطرافا مهمة فى تلك المناقشات الدولية والتى ظهرت بوضوح فى استضافة مصر مؤتمر الأطراف فى شرم الشيخ فى نوفمبر من العام الماضى، فإننا منخرطون فى النقاش أكثر من الأفعال. وننتظر كما تنتظر العديد من الدول النامية أن تقوم الدول التى تتحمل المسئولية الأكبر فى التسبب فى التغير المناخى بدفع مقابل تلك المسئولية مما يمكننا من البدء الجدى فى العمل. والمشكلة الكبرى بالطبع أن النافذة الزمنية المتاحة لنا لكى نتعامل مع التحديات المناخية ضيقة للغاية ولا تتعدى بضع سنوات، وإذا استمر انتظارنا لتلك الأموال القادمة من الخارج ربما لو أتت تأتى متأخرة.
• • •
أحد التحديات الكبرى التى لا يلتفت لها الكثير أنه بالرغم من تحدى التغير المناخى وما يرافقه من تدهور التنوع الطبيعى هو تحدٍ عالمى لكن الاستجابة له يجب أن تكون محلية لأن كل مكان محلى له منظومته الإيكولوجية الخاصة به والتى يجب أن يتم التعامل معها فى هذا الإطار. يعنى هذا ببساطة أن المعرفة المحلية لها دور رئيسى فى تطوير أى استجابة فعالة للتحديات التى تواجهنا. كما أن هذه الاستجابة لظروف مستجدة علينا تتطلب بعض الوقت ليس فقط لتطوير المعرفة المحلية ولكن أيضا لعمل التجارب للتدخلات الأوفق والأنجح. هذا ما لا يمكن استيراده من الخارج فى الغالب. فهل قمنا بما يجب علينا فى هذا الإطار؟. وتتطلب تلك الاستجابات المحلية إطارا للإدارة والحوكمة المحلية تكون قادرة ومسئولة أمام مجتمعاتها المحلية ولديها القدرة للتصرف وقت الطوارئ بالتنسيق مع الأقاليم وربما الإدارة الأكبر، ولكنها لا تنتظرها لأننا نعرف من الأحداث التى مرت وتمر الآن بجوارنا أن الدقائق وليس الساعات فقط قد تكون حاسمة فى إنقاذ العديد من الأرواح والبنى الأساسية.
هناك اتفاق عالمى لحاجاتنا فى المجتمعات المحلية لتطوير بنية أساسية طبيعية تعمل على تصريف المياه وقت الفيضان والأمطار ولكنها أيضا تعمل على امتصاص ثانى أكسيد الكربون وتخفيض درجات الحرارة فى أوقات الموجات الحرارية الشديدة. ويمكن لتلك البنية التى تتكون من النباتات البرية والتربة المسامية أن تساهم بشدة فى استعادة التنوع البيولوجى المفقود فى مجتمعاتنا مما يسهم فى استعادة دورة الحياة وتحسين الحياة لكل الكائنات ومنهم البشر.
تتميز تلك البنية الأساسية الطبيعية بأنها ليست عالية التكلفة ويمكن البدء فى إجراءات تنفيذها فى وقت قريب بالاستعانة بالأبحاث والدراسات التى ستستمر بالتوازى مع بناء تلك البنية. وسيمكننا ذلك من بناء قاعدة معرفية وعلمية تستفيد منها كافة المجتمعات المحلية فى مصر، ونتمنى أيضا أن تمكننا من تقديم المشورة لجيراننا بما يساهم فى استعادة دورنا التاريخى من خلال العلم ــ أساسا ــ لأنه سيكون أهم وأكثر حسما من مجرد توافر الأموال.
• • •
نترحم على الأرواح التى فقدت فى المغرب وليبيا، ولكن يجب كما تقضى بذلك الحكمة أن نعمل من الآن ما بوسعنا لكى نكون أكثر استعدادا فى المستقبل القريب وقت حدوث تلك الطوارئ المناخية التى من المتوقع طبقا للعديد من العلماء أن تزداد. ما هو مطلوب الآن هو الإيمان بالعلم والتحلى بالحكمة والإرادة للبدء باستخدام الموارد المحلية المتوافرة لأن ما يمكن أن نبدأ به الآن مهما كان قليلا سيوفر ربما أضعافه فى وقت لاحق أو حتى لا يمكن تعويضه.