عشر ملاحظات على استشهاد السنور نبدأها بالموقف فى اليوم التالى بعده، فبينما يتمنى الاحتلال انهيار المقاومة فى غزة، تنجح المقاومة فى استهداف وتدمير دبابتين فى جباليا ليُقتل فى أحدهما قائد اللواء 401 ويصاب معه عدد من الضباط والجنود. لاحظوا أن جباليا فى شمال قطاع غزة، وهى المنطقة التى يحاول الاحتلال تهجير سكانها ويزعم أنه سيطر عليها.
ثانيا، لقد حاول الاحتلال استدراك مشهد استشهاد السنوار لينال منه، فأفرج عن مشاهد له تعود لليلة طوفان الأقصى، وهو يتنقل مع عائلته عبر الأنفاق وكأنه ينجو بعائلته، ولكن هيهات.
ثالثا، خرجت طريقة استشهاد السنوار عن طريق الاحتلال نفسه، ولو كانت المقاومة تسعى لعمل فيلم للحظة استشهاده تحوله من مصاف القائد السياسى إلى مصاف زعماء المقاومة التاريخيين لما استطاعت إخراج المشهد على هذا النحو. لقد كافح الرجل وهو جريح بكل ما أوتى من قوة، وبآخر ما يملك من إمكانيات، حتى أفضى بكل ما لديه، تصديقا لبيت الشعر الذى يقول فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى. وأثبت استشهاده بأن قادة المقاومة فى طليعة الشهداء ولا يحتمون بالأسرى كما يزعم الاحتلال.
• • •
رابعا، انقسمت آراء الناس حول السنوار، فمنهم من يرى أنه أتى بالخراب على بلده، وضيع قضية شعبه، وحوّل مناطقهم إلى ساحة حرب، بدون اكتراث للتبعات وللمأساة الإنسانية التى يعيشها الشعب الفلسطينى. ومنهم من يرى موقفه صحيحا وهو الطريق الوحيد للخلاص من الاحتلال. الأمر المشترك بين هذا وذاك أنهما يريدان التخلص من الاحتلال، ولكن لكل منهما طريقته.
ففريق يرى الطريق فى المقاومة السلمية، ولكنه يقف عاجزا أمام الواقع المرير الذى تعيشه القضية الفلسطينية ــ لاسيما بعد الاتفاق الإبراهيمى لعام 2019. والفريق الآخر يرى أن الاحتلال ماضيا فى طريقه لابتلاع فلسطين، ويفعل ذلك بالتدريج لمواجهة المقاومة السلمية، ويبرهن هذا الفريق على رأيه بأن الاحتلال يحاصر الناس فى الضفة من قبل 7 أكتوبر، ويهدم بيوتهم ويشردهم لمجرد مخالفة التعليمات، والتى منها على سبيل المثال زيارة الأخ لبيت أخيه بدون إذن من سلطات الاحتلال. لذلك الطريق الوحيد هو المقاومة المسلحة وتكبيد العدو ثمنا باهظا يرغمه على تغيير سياسته.
خامسا، بعض الناس تلوم على المقاومة التسرع فى شن هجمات 7 أكتوبر فى ظل غياب التنسيق مع قوى إقليمية تستطيع تغطية الموقف الفلسطينى، وينتقدون رهان المقاومة على اشتعال المنطقة بالكامل أو على الأقل محور المقاومة. ويبدو أن رهان المقاومة لم يؤت ثماره، ولذلك خرجت تسريبات تظهر انتقاد السنوار وبعض قادة المقاومة لمواقف إيران.
سادسا، بينما يرى فريق أن الاحتلال أثبت قدرته على تحمل الخسائر البشرية، من قتلى وأسرى بدون أن يتوقف عن القتال، وأيضا استطاعته المضى قدما فى حرب طويلة الأمد، تمتد لأشهر طويلة وربما سنوات، فإن هذا الطرح ينقصه معلومة إضافية لكى تكتمل الصورة، وهى الدعم الأمريكى المفتوح للاحتلال والذى بدونه لتغير الموقف. فالولايات المتحدة أمدت إسرائيل بعشرات الأطنان من الأسلحة، والذخيرة، إضافة للمعلومات الاستخباراتية، وأتت بأساطيلها، وزادت من حجم قواتها بالمنطقة للتصدى لأى قوة تحاول ردع الاحتلال، ثم عطلت مجلس الأمن فى أى مرة حاول إدانة إسرائيل أو حتى فرض الهدنة، كما ضربت بعرض الحائط بقرارات محكمة العدل الدولية، واستضافت رئيس الوزراء الإسرائيلى المتهم بالإبادة الجماعية، ورحبت به ليلقى بخطابه الرابع أمام الكونجرس.
كما غطت الولايات المتحدة أى موقف ضعف تمر به إسرائيل، وساندتها فى مواجهة وحدة الساحات، فهى تتكفل بالحوثيين فى اليمن، وتمارس الضغط لردع إيران، وتمنح إسرائيل حق الفعل بدون تعليق أو حساب، ثم تراقب رد الفعل من الطرف المعتدى عليه وتتوعده وكأنه هو الطرف المعتدى. كل هذا مستمر من قبل استشهاد السنوار ومن بعده، ولكن الفرق هذه المرة أن ضعف إسرائيل أصبح ظاهرا للعيان، فهى لا تستطيع ردع «ميليشيات» المقاومة بمفردها، ناهينا عن الانتصار عليها.
• • •
سابعا، ينظر الكثير من الناس إلى المشهد الحالى ويتساءلون وهم فى حيرة من أمرهم، وماذا بعد؟ ولسان حالهم يكاد يقول بأن غزة دمرت وكل شىء انتهى فإلى أين المفر أو ما هو الحل؟ وللإجابة على هذا السؤال نحتاج لوضع معيار واحد يظهر مفهوم النصر ومفهوم الهزيمة، ففى حالة الشعب الفلسطينى فى غزة، النصر هو البقاء فى غزة، والهزيمة هى التهجير منها. ونفس الشىء ينسحب على المقاومة، فالصمود فى الميدان هو النصر، والخروج منه هو الهزيمة. وبالتالى، الحل فى الصبر والصمود إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
ثامنا، إذا كان هذا هو حال غزة، فماذا عن جبهة الضفة الغربية التى لا تقل خطورتها عن جبهة جنوب لبنان؟ لو كان باستطاعة الاحتلال طرد وتهجير الفلسطينيين والفلسطينيات منها لفعل بدون استئذان أو اكتراث. لكن الأمر لم ينضج بعد، لأسباب منها أن الاحتلال لا يمكنه المساهمة فى زعزعة أمن الأردن، فهى الفلتر الذى يتقى به من الكثافة العربية فى المشرق العربى، وأهم محطات الدفاع المتقدمة التى تصد صواريخ إيران قبل أن تصيب العمق الإسرائيلى. لذلك أمر الضفة مؤجل، ولكنه أمر مؤرق للاحتلال، فالهجمات تزيد من داخلها وتتوغل فى العمق الإسرائيلى.
تاسعا، إن غياب السلطة الفلسطينية عن أى دور مؤثر فى مجريات الأحداث، ثم بروزها فقط عند الحديث عن اليوم التالى لوقف القتال فى غزة، مع ارتباط ذلك بدور لتقويض المقاومة بالتعاون مع بعض الدول العربية التى يبدو أنها مستعدة لدفع تكاليف ما بعد الحرب، كل هذا يعزز من الانقسام الفلسطينى، بالرغم من الجهود المصرية لرأب الصدع الداخلى. وقد يظن البعض أن الموقف السياسى للمقاومة يضعف بعد اغتيال الكثير من قادتها، ولكن إلى الآن لا يبدو أن السلطة الفلسطينية قادرة على استغلال ذلك لا ميدانيا، ولا سياسيا.
• • •
عاشرا، فلنتذكر أن 100 أسير لا يزالون فى قبضة المقاومة بغزة، بدون أن يستطيع جيش الاحتلال ولا أجهزة مخابراته تحريرهم، وتزداد خطورة موقفهم الآن عن ذى قبل. وإذا كان الاحتلال وصل للسنوار عن طريق الصدفة، فإن هذا لأنه كان يتحرك فى ميادين القتال، ويشتبك بنفسه مع قوات الاحتلال، بينما يروج الاحتلال أنه قابع فى الأنفاق يحتمى بالأسرى. لكن من الذى يستطيع ضمان سلامة الأسرى من رد الفعل المنفلت بعد استشهاده؟
الشاهد، أن سرديات حركات المقاومة على مدار التاريخ تؤكد بأن حساباتها ليست مثل الجيوش النظامية، فهى تعرف أن الانصياع للاحتلال والتحرك طبقا للسقف الذى يوافق عليه، يعتبر إقرارا بالردع، ولن يصل بها للاستقلال. كما تؤمن أن تحدى الاحتلال وتكبيده الخسائر، مهما كانت التضحيات، هى طريق الاستقلال. ولنتذكر أن تجربة فيتنام التى استلهمت منها المقاومة فكرة الأنفاق، استمرت 20 سنة بخسائر باهظة حتى التحرير!