لم تعد لدى حقيقة مطلقة. لم أعد قادرة على أن أؤكد صحة معلومة أو خطئها. لا رؤية لدى للأوضاع السياسية فى المنطقة. لا أستطيع أن أجزم بدقة حول أى موضوع. لا ثقة لدى بمصداقية ما أحصل عليه من تفاصيل. لا أعرف إن كانت المواقف المنسوبة لأحدهم فعلا حدثت.
أنا لا حقيقة مطلقة لدى.
***
هذه خلاصة عدة أسابيع من الانطواء وإعادة التفكير. هى نتيجة قرار اتخذته مع انتهاء العام المنصرم، وقد كان عاما مشحونا بالخيبات، قررت التصالح مع فكرة أن النظر للعالم من خلال الثنائيات، أى إما كذا أو كذا هى نظرة منقوصة.
للتوضيح: دخلت فى عدة نقاشات مؤخرا مع أصدقاء وصديقات أختلف معهم سياسيا، وأختلف معهم فى المبادئ أيضا، وهو شىء لم يحدث منذ مدة، إذ إن التطورات السياسية فى المنطقة قد فرزت الناس بشكل لم يعد يسمح بالنقاش مع من نراه يقف على الضفة الأخرى. قد تكون هذه النتيجة الطبيعية لحالة القلق والملل وعدم وجود محافل تشجع على النقاش المتحضر والبناء. إذ ن مجالات التعبير عن الرأى باتت محدودة فى كثير من بلاد المنطقة، حتى تلك التى كانت متقدمة عن غيرها فى سنوات مضت. لاحظت فى نقاشاتى الأخيرة مع من لا تشبه أفكاره أفكارى، أنه من السهل جدا اختصار الاختلاف عن طريق حصره فى الاختلاف الدينى أو الطبقى أو حتى التعليمى. يعنى أن أفترض أن موقفا أخذته أو خلاصة توصلت إليها هى وليدة الظروف التى نشأت عليها، سواء الظروف الاقتصادية أو العادات المجتمعية أو التوجهات الدينية أسهل من أن أفكك مواقفى بعيدا عن خلفيتى الاجتماعية أو الدينية.
***
فى النظرة الثنائية لا مكان لغير المتوقع، ولن يختلف جيل عن جيل. فى النظرة الثنائية الفلاح فلاح وابن المدينة مدينى والنساء دورهن محدد والمتدينة منهجها فى الحياة مرسوم. كمن قالت لى فى إحدى النقاشات الأخيرة أنه من المفروض على من يلتحق بثورة تدعو إلى مناصرة المظلومين أن يهب نفسه للعمل الثورى ولا يضيع وقتا فى مناسبات اجتماعية باهظة التكاليف. هذا التعليق، على بساطته وسطحيته، جعلنى أفكر فى تصور كل مجموعة للمجموعات المختلفة، وجعلنى أتساءل عن تصورى أنا أيضا لمن هو مختلف عنى فى التفكير والمنهج فى الحياة. هل من الممكن أن يقف أحدنا مع مبادئ العدالة الاجتماعية وأن يستمر فى المشاركة فى مناسبات اجتماعية؟ هل يتبرع من أراه مناصرا لنظام سياسى قمعى بوقته لقراءة قصص أطفال فى دار الأيتام؟ أم أن فى هذا تقاطع من الصعب تقبله؟
***
كم هو سهل شيطنة الآخر بدل محاولة فهم سبب وصوله إلى موقفه، رغم جوهرية الاختلاف. كم هو أسهل إطلاق حكم فضفاض على مجموعة فضفاضة أقرر أننى أختلف معهم، أى أن أرى فيهم أشخاصا عديمى المشاعر. كم هو أسهل أن يرانى من لا يشاركنى الحلم بأننى ساذجة. كم هو أسهل أن أضع الناس فى علب مسبقة الحكم وأن ألصق عليهم ورقة بمكوناتهم، تماما كتلك التى نقرأها على الطعام المعلب. مقدار رشة من ثقل الدم، معياران من عدم الوعى، خمس حبات من الغطرسة، مكيال صغير من عدم الاكتراث، محفوظة جميعها فى قدر من الامتلاك المطلق للحقيقة.
نعم، هو امتلاك مطلق للحقيقة التى لا تحتمل التشكيك، لا تدعو إلى النقاش وقطعا لا تسمح بحلول تشاركية. امتلاك للحقيقة يدعو، فى باطنه، إلى تغييب من هو مختلف، التعامل معه على أنه سوف يختفى بشكل داروينى تماما كما اختفت بعض الحيوانات من على وجه الأرض بسبب عدم مواكبتها لعملية التطور، أو سقوط بعد أعضاء الجسد مع الوقت بسبب عدم استخدامها.
***
أن أمتلك الحقيقة المطلقة فيه الكثير من الراحة النفسية، إذ يساعدنى ذلك على اعتبار الآخرين غير موجودين وحتى غير آهلين للوجود. وما فائدة وجودهم أصلا إن كانوا على هذا الشكل والفكر؟ ما علينا، لنتصرف على أنهم من كوكب آخر ولنثق أنهم سوف يقعون من على كوكبنا فيختفون مع الوقت، أليس كذلك؟
أن أمتلك الحقيقة المطلقة فيه الكثير من الراحة الفكرية أيضا، فلا حاجة للتبحر فى التيارات المختلفة بغية الوصول إلى مواقف مبنية على المعرفة. لنطلق أحكاما مبنية على ما توارثناه من معايير، هكذا دون إعادة النظر، فهى لطالما ساعدت من سبقنا على الأرض فى التماسك كمجموعات أليس كذلك؟
***
حقيقتى اليوم هى أننى أتمسك بمبادئ أريد أن أطبقها فى دائرتى المباشرة دون أن أظلم أحد أو أقلل من احترامى له، أتفهم من هو أقل حظ منى وأعيد التفكير كل ساعة بما يصدر منى فأحاول الابتعاد عن التعميم. تعلمت فى السنوات القليلة الماضية أن التقاطعات أكبر وأكثر تعقيدا من الثنائيات. تعلمت أن التعميم عدو الحكمة وأن الكليشيهات، على حبى لها وضحكى على الكاركتور الذى تأتى به، إنما هى أسرع طريقة للحكم. «كل البسطاء... (أكمل الجملة)»، «كل المثقفين... (أكمل الجملة أيضا)». أما عن إمكانية أن يكون بسيطا مثقفا تقدميا، أو مثقفا قليل الأدب متحرش بالنساء لكنه «ابن ناس» فذلك صعب الفهم، مع التحفظ أصلا على الأوصاف (بسيط، مثقف، تقدمى، ابن ناس).
أنا فعلا لا حقيقة مطلقة لدى، وقد أصل بذلك إلى مكان يتوازن فيه حلمى مع بعض الواقع فأستكين.