هوامش على دفتر الأمومة - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:13 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هوامش على دفتر الأمومة

نشر فى : الجمعة 24 مارس 2017 - 11:25 م | آخر تحديث : الجمعة 24 مارس 2017 - 11:25 م
مشهد (1)
• زوجتها أسرتها الفقيرة أول من طرق بابهم، كان فقيرا وهذا يحتمل ولكن غير المحتمل أن يكون نكديا كئيبا كسولا لا يحب العمل، لم يتعلم ولذا لم يجد أمامه سوى العمل فى وكالة الخضار بالإسكندرية، كانت مهمته يسيرة يفرز الجيد من المتوسط من الردىء فى الفاكهة والخضار.
• أنجبت أربع بنات، كان بجهله ينتظر «الذكر» المخلص والفارس القادم من رحم الأم التى أنهكها الفقر والزوج والحزن، ترك البيت والبنات والزوجة والإنفاق وكل شىء بحجة أن امرأته أنجبت له البنات، جمع إلى النكد والكآبة الغباء وسوء الخلق والكسل.
• لم تجد الزوجة بدا سوى العمل فى أحد المصانع من السابعة صباحا حتى الثالثة عصرا، بدأت مسيرة تحمل المسئولية وحدها، زوجت ابنتين بعد كفاح كبير وعنت لا يتصوره عقل، ما زالت تسدد حتى الآن فى ديون زواج بناتها، إحداهما تزوجت منذ ثلاث سنوات وأنجبت وهى ما تزال تسدد فى أقساط الزواج.
• الجميع يعرف مأساتها، بعض التجار الدائنين يرحمها فيتركها لثلاثة أشهر لا يطلب منها شيئا، وإن جاءت لتعطيه قال لها: يمكنك التأخير يا أم فلان، والبعض الآخر لا يرحمها أو يمهلها، فى اليوم الأول من كل شهر يهاتفها فتسرع نحو السداد قبل السجن وبهدلته.
• سمعت عن معاش للمعاقين تصرفه الدولة، قالت: لماذا لا أطلبه لابنتى المعاقة فكريا ولديها صرع، أنهت كل الأوراق، قالوا لها ما دام لها أب سيخرج المعاش باسمه، استولى الأب على مبلغ 400 جنيها «معاش ابنته» ولم يعطها منه شيئا أو يشترى لها منه شيئا ذرا للرماد فى العيون.
• بكت الأم طويلا، صرخت فيه، استنجدت بالناس حولها، توسلت إليه دون جدوى، ذهبت مرة أخرى للشئون الاجتماعية، قصت عليهم القصة فصرفوا مشكورين للابنة مبلغ ثلاثمائة جنيه أخرى.
• هكذا سارت حياتهم، الجيران يساعدونها، وأهل الخير يعاونونها، وبعض الأطباء يعيدوا لها قيمة الكشف، و«الدنيا ماشية» كما يقول المصريون.
• الأم فى صراع يومى مرير لتدبير أساسيات الحياة فهم لا يعرفون الرفاهية، تدرك ذلك حينما تنظر إليهم من أول وهلة، سكن مزرٍ وملابس رثة، وهيئة محطمة، لا تعرف الابتسامة طريقا إلى وجوههم.
• دخلت البنت المصابة بالصرع مدرسة أحمد شوقى الحكومية التى تقبل ذوى الاحتياجات الخاصة، تذهب أياما وتغيب أخرى، المعاملة فى هذه المدرسة جيدة، فسح ورحلات لكن دون دراسة حقيقة، لا ذنب للمدرسة التى يكفى عليها أنها تتحملهم رغم إعاقاتهم، ولا ذنب للطالب فإمكانياته العقلية والبدنية أقل من مواكبة الدراسة، ولا ذنب للأسرة فأغلبها غاية فى الفقر والعوز.
• لا يكدر صفو الأسرة البائسة سوى حضور الأب بين الحين والآخر، يصيح.. يشتم لأى سبب، أكبر مصيبة أن يتحول الأب من سند وعون وستر إلى عبء كبير على أسرته تود أن تتخلص منه.
• رسالة هذه الأم ما زالت طويلة، إنها لن تتخلى عن بناتها مهما كان الثمن، وجدت رجالا كثيرين يتخلون عن أسرهم، الرجولة بدأت تخفت وتغيب وتندثر تحت مطرقة الفقر والفساد والتحلل الأخلاقى والمخدرات، ولكنى لم أرَ أما تتخلى عن أولادها، إنها الأمومة حقا.

مشهد (2)
• كان إداريا متميزا ينجز أصعب المهام فى أسرع وقت وبطرق مبتكرة وبسلاسة دون مشاكل، أعجب به رؤساؤه.. كانوا يسألونه: من علمك هذا؟ فيجيب سريعا: أمى ويحكى لهم عنها، فيقولون: نريد رؤية هذه السيدة؟ هذا المصرفى البارز ما كان يمكن أن يكون هكذا لولا هذه الأم البسيطة.
• مات أبوه فجأة ودون مقدمات ولم يجاوز الـ 35 عاما، صمدت الأم، ضمت ابنها وابنتها إلى حضنها الذى جمع بين الرحمة والقوة، والحنان والحزم، كان لديها من البصيرة والحزم والحسم واتخاذ أصعب القرارات التى تصعب على أى مدير.
• لم تكن تعرف فى الزراعة ولكنها زرعت الأرض التى تركها الأب وزادت مساحتها، لم تدخل دنيا المقاولات من قبل ولكنها بنت لهم بيتا ولم يكن لهم قبل ذلك، لم تشعرهم لحظة بغياب الأب، لا تهاون مع أى مقصر، البيت خلية من النحل.
• تخرجت البنت من الجامعة، تزوجت أنجبت أحفادا منهم اثنين من الأطباء وثالث مهندس فى الأجهزة الطبية، وخرجت الابن مصرفيا شهيرا.
• أعظم ما قامت به أنها خرجت أولادا وأحفادا أسوياء ذوى بصيرة تفيد المجتمع، لا هم لها الآن سوى الدعاء لهم، ولا هم لهم سوى برها وإكرامها.

مشهد (3)
• كانت فى ريعان شبابها، طلقها زوجها ظلما قبل أن تجاوز الثلاثين، ترك طفليه معها دون نفقة أو اهتمام، خرجت للعمل فى سوق المدينة تخصصت فى بيع الجبن والزبدة التى تجلبها من القرية.
• عرف الجميع مذاق وروعة ما تبيعه، لا تعرف الغش أو الخداع، ظلت تستحث ولديها على المثابرة وطلب العلم، حتى أصبح ابنها الأول أستاذا جامعيا، والآخر مهندسا، رفضت الزواج خوفا على أولادها، وأصرت على الكفاح، ما زالت تكافح وتبيع فى السوق حتى الآن، لا تستنكف ذلك حتى بعد أن صار ابنها أستاذا فى الجامعة، فهى ترفض أن تكون عالة على أولادها، سلام على الأمهات رمز الربوبية على الأرض، رمز العطاء المتواصل دون من ولا أذى ولا انتظار مقابل، سلام على التى جعل الله الجنة تحت أقدامها، وسلام على الأبرار فى كل زمان.
التعليقات