رغم بشاعة الحادث الإرهابى الذى أزهق حياة عشرات المصلين المسلمين المسالمين فى نيوزلندا الأسبوع الماضى، إلا أن ردود الفعل الغربية خلال الأسبوع التالى كانت مثلجة للقلوب، لم أتوقعها إطلاقا وخاصة فى ظل الظروف العصيبة التى تواجه العالم من أزمات لاجئين لمشاكل اقتصادية لانهيارات سياسية لتصاعد يمين دينى ــ مسيحى متطرف يقابله إرهاب ــ إسلامى من جماعات مجرمة تدعى تمثيل الإسلام، رغم كل ذلك قدمت نيوزيلندا درسا سياسيا وإنسانيا على قدر عال من المسئولية والتحضر تجاه مواطنيها المكلومين.
قاد هذا الدرس رئيسة الوزراء جاسنيدا أرديرن بمسئولية سياسية عالية وحس إنسانى، حظر على الأسلحة شبه الأوتوماتيكية، خطب سياسية ولا أروع ولا أصدق تتحمل المسئولية ولا تنفيها وفى الوقت نفسه تقدم قيم التسامح والتعددية التى تحتاجها البلاد.
فضلا عن ذلك، فقد كانت القيم الإنسانية ورمزيات التضامن حاضرة فى كل خطبها وزيارتها، ترفض النطق باسم الإرهابى المتهم بارتكاب الحادث، تضع غطاء للرأس احتراما وتضامنا مع المسلمين، تذكر حديثا للرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ لتأكيد احترام مقدسات المسلمين، تتواجد مع الناس تحتضن النساء والكهول والأطفال، وهى أمور لم تثلج قلب أهالى الضحايا والمصابين فقط، ولكنها كانت محط احترام وتقدير العالم كله، للدرجة التى دعت هيئة تحرير نيويورك تايمز أن تضع فى صدر الصحيفة العنوان التالى «أمريكا تستحق قائدا بجودة جاسنيدا أرديرن»! كان الشعب النيوزيلندى حاضرا، ونزل آلاف المواطنين غير المسلمين لحضور صلاة الجمعة التالية للحادث وتضامنت الغالبية بزى محافظ وأغطية شعر تحترم المسلمين وتظهر لهم كامل التضامن، رفع التلفزيون النيوزيلندى الأذان وأصبحت البلد كلها مسلمة ولو ليوم واحد فى ظاهرة ليست فقط صحية ولكنها حضارية وإنسانية بامتياز!
***
الحقيقة أن ردود الفعل الإيجابية لم تكن فى نيوزيلندا فقط، بل كانت فى العالم أجمع، صبى مراهق غير مسلم يقذف النائب الأسترالى المتطرف ببيضة فى رأسه، ويدافع بعدها عن المسلمين ثم يقوم بفتح حساب إلكترونى للتبرع لضحايا الحادث! مقالات كثيرة من كتاب أكاديميين ومثقفين فى أمريكا وأوروبا تدافع أيضا عن المسلمين وتطلب بفهم مختلف للإرهاب وتنتقد الإصرار على ربطه بالإسلام فقط، برامج تلفزيونية غربية تحرص على زيادة ضيوفها من المسلمين للتعبير عن رأيهم صراحة فيما حدث وتظهر تضامنا كبيرا مع الضحايا.
فى المدينة الأمريكية التى أعيش بها نظم عدد من المسئولين التنفيذيين والتشريعيين بالإضافة للعشرات من سكان الولاية ومعهم قادة الكنائس والمعابد زيارة لأحد المساجد الرئيسية بالمدينة وكانت خطبهم تتميز بنفس الحماس ونفس التضامن ونفس الرمزية ونفس المسئولية. كذلك فإن الحادث قد أعاد الضغوط السياسية والشعبية على إدارة ترامب من أجل وضع حد لاستخدام الأسلحة خوفا من أن تتكرر الحادثة فى الولايات المتحدة وخصوصا مع انتشار جماعات التفوق الأبيض وتزايد الأمزجة المتطرفة سياسيا واجتماعيا وخاصة بعد وصول ترامب إلى السلطة.
رأيت وشهدت بنفسى راحة كبيرة بين المسلمين هنا وفى عدد كبير من الدول الغربية والعربية. وهذا الارتياح بل والاحتفاء واجب، لأننا فى لحظة كدنا نكفر فيها بوجود قيم إنسانية من الأساس، لكن ماذا بعد الاحتفاء؟!
***
بعد الاحتفاء بالموقف النيوزيلندى خصوصا والغربى عموما يجب علينا (الخطاب هنا للمسلمين بالأساس وأنا منهم):
أولا: يجب علينا استيعاب ما يحدث فى ضوء موضوع التعددية والتسامح والرحمة والمسئولية القانونية والسياسية لا فى ضوء انتصار الإسلام أو هزيمة المسيحية أو العكس! ما حدث فى نيوزيلندا هو تأكيد أن التطور الحضارى الغربى بكل ما فيه من سلبيات وأدوات استغلال، لكنه ما زال قادرا على إنتاج منظومة قيمية إنسانية تدعم وتؤكد فكرة المسئولية السياسية فضلا عن استيعابها لمواضيع الاختلاف والتعددية! كما قالت الأستاذة الدكتورة نيفين مسعد فى إحدى تغريداتها، فإن رئيسة الوزراء النيوزيلندية لم يكن مطلوبا منها من الأساس لبس الحجاب ولا ذكر حديث الرسول، فكان من الممكن أن تتحمل المسئولية السياسية وأن تقوم بتعزية المسلمين دون القيام ــ ومعها الكثير من المواطنين العاديين ــ بكل هذا، ولكنها فعلت لأنها إنسانة أعلت القيم الإنسانية على أى انتماءات أيديولوجية أو سياسية.
ثانيا: يجب علينا الخروج من نظرية أن العالم كله يتآمر علينا! ليس صحيحا! العالم يتضامن معنا، صحيح أن هناك تيارات فكرية ودينية متطرفة لا تكف أبدا عن توجيه مشاعر الكراهية ضد المسلمين تحديدا وضد الأقليات غير البيضاء عموما، لكن ما زالت الأغلبية منحازة للقيم الإنسانية وتتصرف بتلقائية وحب وتضامن مع المسلمين ومقدساتهم ورموزهم الدينية. ليس صحيحا الخطاب الإسلامى الشعبوى الذى انتشر أخيرا ليتحدث أنه لم يسمِّ أحد ما حدث بأنه إرهاب أو أن مرتكبه إرهابيا كون أن تهمة الإرهاب لا تخص سوى المسلمين! غير صحيح! هذه إما تجارة رخيصة للحصول على تضامن وهمى أو لأكل العيش، أو أنه جهل تام بالتطورات وبالأحداث الجارية، الغالبية العظمى من السياسيين والمعلقين والمفكرين ووسائل الإعلام لم تتردد منذ اللحظة الأولى فى تسمية ما حدث بالإرهاب!
ثالثا: متى يمكن لنا (جماعة المسلمين على عمومية الكلمة) أن نقدم قيما حضارية وإنسانية مشابهة؟ هل يمكن لنا أن ننهى هذا الجدل العقيم حول جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؟ هل يمكن أن ننهى هذا الجدل العقيم حول عدم جواز الذهاب إلى الكنائس أو المعابد كون أن فيها ما يخالف عقيدة المسلمين؟ هل يمكن لرجال الدين وعامة المواطنين أن يستوعبوا غير المسلمين فى المجتمعات العربية باعتبارهم مواطنين كاملى الأهلية وليسوا أهل ذمة؟ هل يمكن لنا أن نقدم نفس درجة التضامن للمواطنين غير المسلمين الذين يقتلون فى دار عباداتهم أو يهاجمون فيها أو يطردون منها؟ هل يمكن لنا أن نكف عن ترديد العبارات النظرية عن السماحة والرحمة والعدل ونحولها إلى أفعال؟
علينا أن نعترف أن المواطن غير المسلم فى العالم العربى هو فى معظم الأحوال لا يحصل على حقوقه المدنية والسياسية والدينية كاملة وللأسف هناك خطاب إسلامى كامل يدعم هذا التمييز! علينا أن نعترف أن هناك الكثير والكثير من عمليات القتل الممنهج التى طالت أبرياء مسالمين كانوا يصلون فى كنائسهم وقد تمت عمليات القتل والتصفية على الهوية الدينية بوضوح!
***
كمسلم ليس لدى أدنى شك أن دينى عظيم، وأن رسوله جاء بالرحمة للعالمين (وليس فقط للمسلمين)، وأن الله هو العدل المطلق والسلام المطلق والرحمة المطلقة، لكن ما لم تتحول كل هذه القناعات (والتى هى قناعات كل مسلم) إلى أفعال حقيقية فما قيمتها لغير المسلم؟
أتمنى أن يأتى اليوم الذى تنتهى فيه عمليات الاعتداء على الكنائس وعلى المصلين فيها، وأن يتعامل كل مسلم مع الكنيسة باعتبارها مكانا للعبادة لا ينتقص من أحد ولا يؤذى أحدا، وإن كان هناك بالفعل حالات للتعدى على الأراضى، فليتم التعامل معها بالقانون والقانون وحده، لا بالتسخين والتأليب والعنف ثم الجلسات العرفية!
هذا هو ديننا الذى أؤمن به، وما عداه هو باطل بالضرورة، على المسلمين كما المسيحيين كما أتباع كل الأديان أن ينهوا كل مظاهر التفرقة والعنف وعدم قبول الآخر والمشاركة فى بناء حضارة ذات قيم إنسانية عالمية مشتركة تستمد جذورها من الأديان ولكن لا تسمح للأخيرة بالتفرقة بين البشر.