يضج الفضاء بقنوات لا حصر لها.. تكثر الصور والبرامج المكررة.. معظمها للتسلية وحتى الثقافية منها تحولت أيضا لشكل من أشكال المحاباة لبعض الكتاب وحكرا على بعض الفنانين والمثقفين من الأصدقاء والمقربين وبالطبع الأهم هو الولاء!!!
***
هناك ذاكرة حاضرة جدا وهى التغطية لحرب الخليج الثانية؛ حيث كانت الـ«سى إن إن»، والـ«بى بى سى» وغيرهما هى الوسائل الوحيدة المتاحة لمعرفة ما يجرى على بعد كيلومترات بسيطة من الخليجيين الذين كانوا على توجس إن لم يكن خوف شديد.. فهذه منطقة لم تعرف الحروب والنزاعات ولا حتى التظاهرات السلمية.. كثرت حينها النكات من الجيران وغيرهم حول الخوف الذى اعترى شعوب المنطقة فردد عادل إمام أن آخر معركة عاشتها منطقة الجزيرة والخليج كانت هى معركة بدر.. ضحك الجمهور حينها كما هو حالهم مع «قفشاته».
***
توعدت حكومات الخليج بأن تعمل على أن تكون لها وسائلها المستقلة فكان إن بدأت واحدة خلف الأخرى هى فى معظمها تابعة للحكومة أو بعض المتنفذين القريبين من المسئولين أو حتى هم من «الواجهات» وهؤلاء كثر عند العرب. فلكل وزير أو مسئول أو أمير واجهة أى بمعنى شخص يقوم بما يريده هذا المسئول دون أن يكون هو فى الصورة.. !!
انتشرت القنوات وتنافست فيما بينها حتى المحطات الإخبارية التى راحت تتنافس فى التغطيات الحية والمتابعات والتحليلات فيما ادعت أنها صوت هذه الجماهير العريضة من المغرب حتى أقصى بحر العرب.. هى أصبحت واجهتهم وبرلمانهم وصحفهم الحرة ووسائلهم للتواصل وتبادل الآراء والمعرفة.. تفاجأ العرب بهذه الصحوة وتنفس كثيرون بعضا من الهواء النقى أو هكذا اعتقدوا.. راحوا يرددون أخيرا أصبحت لنا محطات تليفزيونية حرة.. هى لنا وليست لحكوماتنا والمتنفذين ورءوس الأموال.
طالت فرحتهم بعض الشىء ولكنها ككل الأحلام والآمال تتحول سريعا إلى سراب.. عشق العرب السراب حتى تغزلوا به أحيانا لأنه كل ما ينامون ويصحون بحثا عنه من المهد إلى اللحد.
***
كثرت التحديات والتحليلات عن هذه المحطات ودورها وما تقوم به. أحدهم قال إنهم يشوهوننا أو ينشرون غسيلنا القذر. هم يأتون بالأكثر حماقة من بيننا ليتصارعوا على الشاشات وعلى الهواء كما الديكة.. المضحك المبكى أن هذه الصراعات تتحول أحيانا إلى ضرب بالكراسى ورمى الآخر بأكواب الماء التى توضع أمام الضيوف.. شكل من أشكال الهمجية فى ظاهرها.
ولكن ورغم كل ذلك يبقى السؤال الذى لا يطرحه الكثيرون ولا حتى من باب الفضول وحب المعرفة.. رغم كل هذا الازدحام الفضائى الخليجى لماذا تبقى شعوب الخليج فى صورها النمطية ولماذا لم تستطع كل هذه البرامج واللقاءات والحوارات أن تعرف العرب والعالم بطبيعة هذه المنطقة وما جرى فيها وحولها من تحولات سريعة. فلا يمكن أن تتعرف على شخص إلا ويطرح السؤال المتكرر، ولو بشكل مبطن أو غير مباشر، وهو هل تلبسين العباءة فى بلدك وهل تستطيعين الخروج بهذا اللبس. أو حتى هل ترتادون المقاهى والمطاعم وهل تجلس النساء والرجال فى نفس المكان؟؟ هى كثيرة الأسئلة التى يرى البعض أنها نمطية ويفسرها آخرون بأنها تعالى العرب على عرب النفط!! ولكن تبقى الفكرة الأهم وهى أن هذه المنطقة التى فضلت التقوقع لسنين وما لبثت أن شرعت أبوابها على العالم عبر نوافذ فضائياتها لم تستطع أن تستثمر هذه القنوات لتكثيف المعرفة بشعوب وعادات وتقاليد وحضارات هذه المنطقة. وحتى عندما يفعلون فهم إما يبالغون فى المديح أو يكثرون من التسطيح الممجوج فيفقد المشاهد رغبته فى المتابعة أو يغلق كل محطاتهم ويعود لنفس تلك المحطة التى قال كثيرون عنها أنها الأصدق من محطات كل العرب رغم انها ليست بريئة!!!
***
لا يمكن أن يكون كل هذا الازدحام من البرامج البعيدة عن الواقع أو المتملقة أو السطحية هو مجرد صدفة أو جزء من آلية التسويق التى هى ليست حصرا على منطقتنا ومحطاتنا.. لا يمكن إلا أن يفكر أحدهم بأن هناك سياسة لتقسيم أوسع ولبقاء لعرب لا يعرفون العرب وبعيدون عنهم رغم أن ما يجمعهم الكثير.. وليس الأدب الخليجى المترجم والذى ينال الشهرة إلا تعبيرا صارخا عن الجهل بهذه المنطقة ووضعها فى إطار الإثارة من مجتمعات ظاهرها محافظ ومتدين وباطنها ماجن ومنحل.. روايات ومجموعات قصصية ترجمة إلى لغات حية عدة ليست سوى صورة من صور تحويل حتى الأدب إلى مادة استهلاكية رخيصة.
فضاء مزدحم بالجهل وقلة المعرفة..
كاتبة بحرينية