يتغنى سكان المدن الساحلية دوما بالبحر وجماله وسحره، وقد كتب فيه شعر لا يمكننى منافسته بكلماتى. وبما أننى من مدينة داخلية، حتى لو أن نهرا تغنى به الشعراء أيضا مر بها، إلا أننى أعود وأتذكر أهمية البحر كلما زرت مدينة ارتمت شواطئها بمحاذاة مياهه. فلا أكاد أن أصل إلى مدينة جاورت البحر حتى ينفتح قلبى فأشعر أن بإمكانه أن يضم كل أهلها. أقف أمامه فتتسع الرؤية ويمتد المستقبل حتى إن كانت الأفق مغلقة. لا شىء مغلق هنا، أمام اللا منتهى، ولا حدود لقوة أستمدها من نقطة بعيدة يتلاقى البحر والسماء عندها.
***
أشعر أن من يقف أمام البحر لا بد أن يفتح ذراعيه ويسمح للهواء أن يخترق جسده. أنا على الأقل أقف مستقيمة لأتلقى أسرار الكون هنا، حيث يعمينى انعكاس نور الشمس على الماء. أرى المياه تتلألأ بدلال كأنها تطلب من أشعة الشمس أن تمسدها، قوارب صغيرة تتراقص دون أن يظهر من عليها، تتهادى مع الموج فأسمع تراتيل لا أعرف أصولها ولا يهمنى أصلا أن أعرف كلماتها. هى تراتيل تهدأ معها عواصفى الداخلية ويتبع تنفسى إيقاع المركب الأقرب إلى. شهيق وزفير يبدو لى بعد دقائق أن القارب تبنى هو الآخر إيقاعى فربط حركته بسرعة تنفسى.
***
هناك عند تلك النقطة البعيدة يوجد عالم لا أراه إنما أسمع صوت سكانه ينادونى، تماما كما سمع أوليسيس غناء حوريات البحر فنسى الدنيا ولحق بهن رغم تحذير من كان معه له. من يلوم أوليسيس حين فتح قلبه وذراعيه للبحر ورمى بنفسه فى الموج؟ أظن أن هناك لحظة يختفى فيها المنطق رغم سنوات من الصرامة، هناك لحظة لا تهم فيها تبعات فعل قد نراه مجنونا لو ناقشناه فى جلسة، لكن هنا، حين يتحول الموج إلى شلالات أفقية من الذهب، قد نرمى بالصرامة من أعلى القارب ونرمى بأنفسنا معه بغية أن نعيش الآن، دون تفكير ودون تخطيط.
***
هواء يمر فوق الروح فيزيل عنها الهموم، نور يمسح على القلب فينتزع عنه الحزن، موج يخترق صوته الآذان فيخفى ضوضاء كانت على وشك أن تصمنى. ها أنا صفحة بيضاء لا كلمات عليها سوى ثلاث: بحر، شمس، هواء. ثم تبدأ وجوه بالظهور، ابنتى يليها زوجى ثم صديقتى وأصدقاء، بينهم أولادى وآخرون. ما زلت لا أسمعهم لكن ذلك لا يهم. يقال إن ثمة تمارين ذهنية تساعد على استحضار مشاعر الحب، يقال أيضا إن القدرة على تصفية الذهن ثم استدعاء صور تبعث على السعادة مهمة قد تستغرق شهورا من التدريب. كيف إذا أخذ ذلك منى دقائق معدودة، لحظات أوصلتنى إلى مكان شعرت فيه أننى جزء من البحر من حولى، وها هم أحبائى يحيطون بى من كل جانب؟
***
تحاول تمارين التأمل دوما أن تعود بنا إلى أوقات نستمد منها الهدوء، وها هى حارة ضيقة تظهر وسط الموج وأسمع صوتى يقول «أنا من هناك». أنا وحدى فى المدينة القديمة أمر بيدى على حائط من الحجر فأسمع وشوشات لا أفهمها، قد تكون لغة لم يعد أهلها يعيشون فى الحارة، أم ترانى لم أعد أتقن العربية، ففى هذه اللحظة حين اختلط البحر مع الحارة فقدت شعورى بالمكان، أين أنا؟ وما هى لغتى؟ لغتى هى لغة الحارات العتيقة، لغة الحب حين يمر شاب أمام منزل فيلمح صبية جالسة فى حديقته الداخلية دون أن تراه. لغتى هى نظرة يرمينى بها رجل عجوز توقف ليلتقط أنفاسه فرأيت فى عينيه شابا فتيا يقفز من على سور البيت ليلحق بحافلة أخذت حبيبته إلى حياتها الجديدة.
***
أنا متطفلة على البحر وعلى الحارة، أنسج قصصا عن ناس لا أعرفهم إنما فتحوا لى زاوية صغيرة من حياتهم اقتحمت منها ما استطعت من مساحة. هى قصص تدور فى قلبى فأعلقها على من يمر فى حياتى، يسمح لى أحدهم أن أقف على عتبة منزله وها أنا أحكى قصة رأيتها إنما ربما لم تحدث. أشرب الشاى فى منزل لا أعرف سكانه إنما يتسلل دفئهم إلى قلبى مع كل رشفة حتى أشعر أننى أصبحت ابنتهم.
***
أعود إلى نفسى هنا أمام اللا منتهى فيختفى العجوز الشاب بعد أن رمت محبوبته بمنديلها المطرز من شباك العربة. اختفت وجوه من أحب وبقيت وحيدة أمام البحر والشمس أبحث عن الحارة التى اختفت هى الأخرى وكأن الموج ابتلعها كما ابتلع أوليسيس بعد أن أغوته حوريات البحر. ها هو السحر مفرودا أمامى حتى تختفى تلك النقطة البعيدة مع ابتلاع البحر للشمس. ماذا أفعل الآن، وقد عادت المراكب واختفى الذهب من فوق الماء؟ أضم يداى إذ لا شىء بإمكانى أن أحتضنه بعد أن غابت الرؤية. أعطى ظهرى للبحر وأبتعد علنى أسمع صوتا مألوفا أتجه نحوه. لقد غسلتنى ساعة الغروب تلك وجعلتنى جاهزة لما هو جديد. غدا لن أكون هنا، إنما سوف أغلف بعض الذهب بقطعة من حرير أضعها فى ركن فى قلبى حتى أعود. هناك دوما حارة صغيرة تعيدنى إلى البحر.
كاتبة سورية