فى زيارة سريعة إلى القاهرة أخيرا سألت نفسى إن كنت قد اشتقت إلى المدينة وشوارعها. مشيت فى شوارعها المكتظة وقابلت أصدقائى فى أماكن كنت أرتادها حين عشت فى المدينة منذ سنوات. لم أكثر اللقاءات حتى تهيأ لى أن إيقاع القاهرة بات أقل سرعة وأيامى أقل اكتظاظا. لم أحشر الكثير فى ساعاتى ولم أتسابق مع الزمن لأضع إشارات على لائحة أعددتها مسبقا لما أنوى أن أقوم به.
***
تخيلت أننى مركب شراعى على النيل بعد ظهر يوم حار، أتحرك ببطء فى غياب النسمة، مستلقية على ظهرى أنظر إلى السماء. أبقى فى مكانى ساعات حتى تبدأ الشمس بالغروب. أتحرك مع خطوات المدينة، متكاسلة فى الصباح، مزدحمة عند الظهر، متثاقلة عصرا ومنتعشة فى المساء. أراقب أطفالى وأطفالا آخرين يلعبون، أنظر إلى أمهات يراقبن أولادهن أيضا دون أن تكون عندى رغبة بفتح أحاديث عابرة عن الطقس والتربية.
***
علاقتى بالمدينة هى علاقتى بالناس. المكان بناسه، هكذا يقال. أرمى مرساة حياتى بعيدا فى الأفق وأجر القارب عشرين أو ثلاثين سنة إلى الأمام فأرانى مع أصدقائى وقد تغيرت ملامحنا بعض الشىء. أعود إلى مدن أحببت العيش فيها لألتقى بأصدقاء أفهم أنهم المدينة. حديث لا ينتهى، ثرثرة وسياسة دائما وأبدا، أخبار فلان وفلانة طبعا لا بد منها. طيف من القصص لا ينتهى، المدينة هى قصص الناس كما سمعتها منهم وكما أتذكرها حين أعود إليها.
***
أخاف أن أعود إلى مدن لى فيها أصدقاء فلا ألقاهم، كما أخاف من ذكرى مدن عشت فيها إنما لا تظهر فى ذاكرتى وجوه مألوفة حين أفكر بسنواتى هناك. شرفات المنازل محط الأسرار، لذا أصر دوما على أن تكون لى شرفة صغيرة ربما تتسع لكرسيين من القش لا أكثر، ففى الشرفة تنفتح القلوب وتتدحرج منها الأسرار. الحب والفراق والأحلام، الكبيرة منها والصغيرة، «كأن نصحى من النوم معافين من الخيبات» (محمود درويش).
***
الخيبات: هل سأراها فعلا خيبات هناك حيث رميت المرساة؟ أم ستبدو لى صغيرة وربما سرقت منى ساعات قضيتها غاضبة دون أن يكون غضبى مبررا. أن أنظر لأشياء مضت بعين اليوم تمرين شديد القسوة، أن أحاسب نفسى كما كنت بأدوات تعلمت استخدامها لاحقا أظنه مسارا مجحفا لماذا أسلكه؟
***
يطل على وجه ابنتى فتشرق الشمس على ظلمتى، أى خيبة هذه إن كان لشخص صغير بسنواته المعدودة هذه القدرة على مسح الخيبات؟ ابنتى فى العربة، على العشب، تقع وهى تحاول أن تنزل من على الرصيف فيقفز قلبى من مكانه. ابنى فى المدرسة الابتدائية، أدخل معه المكتبة قبل أن تفتح المدرسة لنشترى الألوان والدفاتر. أخى يدخل فى المساء دون موعد، أفتح الباب فأراه يسأل ماذا طبخنا اليوم. صديقة تقول إن معها بطاقة إضافية لحفلة فى الأوبرا. صديق يفتتح معرضه الأول، حفلة فرح ربما انفصل من تزوج فيها بعد سنوات لكنى أكرر الحضور.
***
هكذا إذ أعود إلى القاهرة وأفرد ما فى قلبى على حبل الغسيل، إذ لا يدل شىء بنظرى على بيت مسكون كما يفعل حبل غسيل أنشر عليه ثياب العائلة وألقط القصص، أقف خلف الغسيل لأنظر إلى البيوت من الطرف الآخر من الشارع. أين السيدة التى كانت تسكن هنا؟ البيت يبدو كما هو لكنى لا أراها. فى الطابق الأعلى أرى شابا وكرسيا وطاولة فى مساحة كبيرة فارغة، يبدو أنه ساكن جديد. على ناصية الشارع بائع الورد بابتسامته الدائمة، هل سأجده حين أعود بعد عشرين سنة وهل سيتذكر أننى أشترى الورد البلدى فقط؟
***
فى العودة الكثير من الحنية والوجوه، المكان هو ناسه، المكان هو لقائى بأشخاص لم أرهم منذ سنة أو عشر سنوات فنلتقط حديثا كما تركناه وقتها ودون الحاجة للتفسير. أخاف أن أعود إلى مدن رحل منها أصدقائى، فما الذى يربطنى بها، رغم شغفى بالحارة ورائحة الخبز أو لون السماء بعد المطر؟ هذه كلها تختفى حين يختفى وجه الصديقة أو أكتشف أن جارتى المفضلة انتقلت إلى منطقة جديدة.
***
هناك حيث ألقيت المرساة ما زال أصدقائى بانتظارى، نجلس معا على شرفة بعد سنوات فرحين باللقاء. استقيظنا على خيبات كثيرة منذ بدأت الصداقات وها نحن اليوم ما زلنا نحمل أحلامنا الصغرى (محمود أيضا طبعا!) فلم يبق فى العمر الكثير وما تبقى تكفيه صداقات حول مائدة طعام وأحاديث يبدأ كثير منها بـ«هل تذكر حين كنا مرة.»... هكذا إذا أعود للمدينة، ولناسها.