• كتب أحد الكتاب الكبار فى جريدة الأهرام مقالا بعد الحكم الأخير على الرئيس الأسبق د/محمد مرسى بعنوان «عاش خائنا وسيموت كافرا»، وكل المقال عبارة عن تفصيل لمعنى العبارتين.
• عجبت للمقال لأنه صادر من كاتب كبير من المفروض أن يلجم قلمه عن هذه المعانى التى يعلم قبل غيره بطلانها دينيا وواقعيا.
• قلت لنفسى: كيف يقال عن رجل مسلم يصلى ويصوم ويزكى ويحج ويعبد الله وحده أنه سيموت كافرا، فمن أدراك بالغيب، ومن الذى منحك صكوك التكفير أو الغفران، من أعطاك مفاتيح القلوب التى هى بيد الله وحده، ومن أعلمك بالغيب، ومن أنابك عن الله سبحانه فى الأرض لتمنح هذا الإيمان وآخرين الكفر.
• ومن الذى منحك مفاتيح الجنة والنار، ومن الذى يتألى على الله فيحكم بكفر فلان وهو لم يقابله مرة واحدة ولا يعرف عن تدينه شيئا.
• ومن الذى يتألى على الله فيحدد مصائر العباد فى الحاضر والمستقبل بل فى الدنيا والآخرة.
• وما هى البطولة فى أن يشتم البعض صباح مساء رجلا أعزل ملقى فى السجن لا يستطيع صدا ولا ردا وهو ممن يصدق عليهم قوله تعالى «لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا».
• لقد كان العربى قديما يأبى أن يقتل الفارس المنافس إذا سقط عن جواده وهو أعزل، وقد أبى على بن أبى طالب أن يقتل فارسا فى الحرب شتمه أو بصق عليه بعد أن تمكن منه خشية أن يكون ذلك لنفسه لا لله، وغضبا لذاته وليس دورانا مع الحق.
• لقد كنا نعيب على بعض الإسلاميين فيما سبق شعورهم السلبى بامتلاكهم الحقيقة المطلقة فى قضايا الحياة أو استعلائهم على الناس بحجة واهية هى الاستعلاء بالإيمان دون أن يدركوا أن الفرق بين الاستعلاء بالإيمان والعلو بالذات شعرة دقيقة تغيب عمن لم يعمر قلبه التجرد والإخلاص، ولم تتشرب نفسه تواضع الصالحين، وكنا نعيب على بعضهم تكفير الناس بغير حق.
• والآن نعيش ومنذ سنوات قليلة ظاهرة أخطر وأسوأ تتمثل فى التكفير باسم الوطنية، وامتلاك البعض لمفاتيح الوطنية وأبوابها، فيدخل من يشاء إلى جنتها ويخرج من يشاء إلى نار الخيانة والعمالة، ويفصل الوطنية والدين أيضا على مقاسه.
• وكان هؤلاء ينكرون على الإسلاميين ممارسة السياسة من منظور عقدى أيديولوجى، فإذا بهم يمارسونها مع الإعلام والحياة من منظور أيديولوجى ضيق جدا يكاد يخرج معظم الناس إلى دائرة الخيانة الوطنية.
• ترى من أعطى هؤلاء جنة الوطنية والآخرة أيضا ليدخلوا فيها من شاءوا ويخرجوا منها من شاءوا، الدين للناس جميعا، لا يتألى أحد على الله باسم الدين، والوطن للناس جميعا لا يتألى أحد على الله والوطن باسم الوطنية.
• البعض ضيق مفهوم الوطنية حتى أصبحت لا تكاد تتسع لأحد فى بلادنا إلا القليل، لقد اختصروا الوطنية فى مدى موافقة أو معارضة الإنسان للحكومات المتعاقبة حتى لو كانت المعارضة منطقية أو سلمية أو عاقلة أو صائبة.
• فهل تعنى الوطنية أن يتحول الناس إلى قوالب صماء لا عقل لها ولا فكر ولا رأى ما دامت الحكومات المتعاقبة ترى رأيا بعينه، ألم تخطئ عشرات الحكومات المتعاقبة فى مصر أخطاء إستراتيجية كبرى كلفت مصر الكثير من قبل ومن بعد.
• لقد تحولت الوطنية إلى سلعة رخيصة حينما تلاعب بها كل من هب ودب ومنحوا صكوك الوطنية أو الخيانة لمن شاءوا، لقد تم التلاعب كثيرا بهذه المعانى السامية.
• أما الخيانة فقد سألنى البعض بعد ثورة 25 يناير عن: هل كان مبارك خائنا؟ فقلت لم يكن أى رئيس مصرى خائنا أبدا باستثناء الخديوى توفيق الذى استدعى الاحتلال الانجليزى لمصر الذى استمر 70 عاما كاملة.
• كان لكل رئيس أخطاء صغرت أم كبرت، ولكن أحدا من حكام مصر لم يخن بلاده أبدا سواء فؤاد وفاروق ونجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك، ومرسى لم يخونوا بلادهم أبدا.
• وحينما نصف أى رئيس لمصر بأنه خائن فإن هذا يسىء إلى مصر وإلينا جميعا، وكل رئيس له حسناته وسلبياته، ولكننا وللأسف نقدس كل رئيس إذا كان فى السلطة ونهيل التراب عليه إذا نزل عن كرسيه.
• أما أحكام المحاكم فمن حق القضاة أن يحكموا بما شاءوا بحسب ضمائرهم والأوراق التى أمامهم والعصر الذى يعيشون فيه، ومن حق التاريخ أيضا أن يقول كلمته الفصل، ومن حق محكمة العدل فى السماء أن تقول كلمتها أيضا.
• فقد سجن نجم الدين أربكان وعزل من منصبه كرئيس وزراء ولكن التاريخ أنصفه.
• وسجن على عزت بيجوفيتش خمس سنوات ولكن التاريخ أنصفه، وسجن محمد على كلاى وجرد من لقب بطولة العالم للملاكمة ولكن التاريخ أنصفه، وحكم على آخرين أمثالهم وأنصفهم التاريخ كذلك.
• إننا نريد أن يرحم بعضنا بعضا، وأن نحكم العقل بيننا حتى إذا اختلفنا أو وضع أحدنا الآخر فى السجن، ونتعلم من السودانيين الذين يحكم بعضهم فإذا اضطر لوضع الآخرين فى السجن يكرم وفادتهم ويحسن إليهم ولا يتعرض لهم بالسب والشتم ويعمل ليوم قد يخرجون فيه من السجن ويشاركونه مرة أخرى فى الحياة أو حتى فى الحكم دون غضاضة أو أحقاد أو إحن.
• اقرأوا تاريخ السودانيين السياسى لتدركوا قدرا كبيرا من السماحة بينهم حتى وهم فى أصعب لحظات الصراع السياسى.
• لقد قلت للجميع بعد سجن الرئيس الأسبق مبارك «ارحموا عزيز قوم ذل» فغضب منى الجميع يومها وأولهم الإسلاميون، واليوم أقول عن د/مرسي«ارحموا عزيز قوم ذل» وأعلم أن الكثيرين سيغضبون، ولكن كما لم أهتم فى المرة الأولى لن أهتم فى الثانية.
• يا قوم: حكموا العقل، ماذا سيتبقى فى عمر د/مرسى ليقضى كل هذه الأحكام «إعدام و 85 عاما سجنا»، تُرى أيهما سينفذ أولا، الإعدام أم الـ 85 عاما، فإذا أحببنا أو كرهنا يكون بتعقل، وإذا خاصمنا أو تصارعنا يكون بحكمة، وإذا سجن بعضنا بعضا يكون برحمة ورفق، وإذا صار بعضنا أقوى من الآخر فعليه بالعفو والصفح فهو زكاة القدرة فـ«الراحمون يرحمهم الرحمن».