عبدالله بن المبارك علم من أعلام الفقه والزهد والعبادة، كان تاجرا موسرا كريما، وكان يحج عاما ويتطوع للجهاد عاما، وكان يخفف دوما على رفقائه من الحجيج، إذ يجمع فى بداية الحج من رفقائه النفقة ويظل ينفق عليهم حتى إذا هموا بالعودة أعاد إليهم أموالهم.
وبعد أن تحرك ركب الحج به فى أحد الأعوام، وجد امرأة تلتقط دجاجة ميتة وتخفيها فأسرع إليها وسألها عن أمرها قالت له: اترك الخلق للخالق، فألح وأقسم عليها فقالت: أنا أرملة وأم لأربع بنات اشتد بى الحال ونفد منى المال وطرقت كل الأبواب دون جدوى وقد أحل الله لنا الميتة حتى لا نهلك، وقد خرجت ألتمس طعاما لبناتى بعد أن أحرقهم لهيب الجوع، فلا تجادلنى فى هذه الميتة.
ففاضت عينا ابن المبارك فأعطاها كل المال الذى جهزه للحج فأخذته وهى لا تصدق نفسها، وعاد ابن المبارك إلى منزله ولم يذهب مع الحجيج الذين أدوا المناسك ثم عادوا، والمفاجأة أنهم حكوا أنه كان معهم وأنه كان يخدمهم ويجتهد فى العبادة فى الوقت نفسه، فألجمته المفاجأة، فنام ليلته وهو يعجب لحكايات الحجيج فرأى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يخبره أن الله أكرمه كما أكرم أم اليتامى وسخر له ملكا يحج ويؤدى عنه كل المناسك بنفس طريقته، طاف ابن المبارك حول اليتامى والفقراء بقلبه وماله فأكرمه الله بكل شىء.
هؤلاء لم يكتفوا بالطواف حول البيت فطافوا حول مرادات الله ومع الشريعة حيث دارت وكانوا معه سبحانه حيث أرادهم، إن أرادهم الله فى الحج حجوا، وإن أرادهم فى غيره من الطاعات والواجبات لبوا وأطاعوا، إن أرادهم مع اليتامى والأرامل كانوا، وإن أرادهم فى بناء أوطانهم وتعمير الكون لبوا.
فإن منع عنهم الحج لعلة أو أخرى وجدوا من الطاعات والقربات ومرادات الشريعة ومقاصدها الكثير غيره.
نعم.. الحج هو الشعيرة الخامسة من شعائر الإسلام الكبرى، إنه النداء القديم الجديد، قديم من أيام إبراهيم عليه السلام أول من صدح به فى البشرية وجديد حيث وضع مناسكه وقواعده وأحكامه النبى الخاتم محمد «ص».
إن الشوق الأعظم الذى يحمله قلب كل مسلم نحو الكعبة المشرفة والترجمة الحقيقية لوفاء هذه الأمة لأبيها إبراهيم عليه السلام لتبقى دورات الصلاح وتاريخه متصلة المبنى والمعنى منذ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وحتى اليوم.
مئات الأعراق والأجناس والألوان واللغات تجتمع كل عام من القارات الخمس فى هذا المكان المهيب لتثبت أن شرف الإنسانية الحقيقية هو فى معرفتها لله وعبوديتها للحق وخدمتها للخلق.
وإذا كان الكثير منا لا يستطيع ماديا أن يحج أو حيل بينه وبين الحج لسبب أو لآخر، فإن على هؤلاء جميعا أن يبحثوا عن طاعات موازية وقربات مقاربة لأجر الحج وثوابه، أن يخلعوا ثوب الهوى ويلبسوا ثوب الهدى، يخلعوا ثوب المعصية ليلبسوا ثوب التوبة فأشواق التائبين إلى الله لا تحتاج لسفر، يكفى سفر القلوب إلى الله، فالعبد يسير إلى الله بقلبه لا ببدنه، ونية المرء أبلغ من عمله بل تسبقه.
وربما أعطى الله من حِيل بينه وبين الحج ثوابا أعظم من ثواب الحجيج إذا كان معهم بقلبه ومشاعره، وأضاف معها طاعات أخرى فى وطنه.
فإذا خلعوا ثيابهم العادية خلع ثياب المعصية، وإذا لبسوا لباس الإحرام عزم على لبس رداء التوبة، وإذا رموا الجمرات رمى كل إبليس فى منزله وعمله ووطنه بحجارة الطاعة، وهجر الشيطان، وصدع بالحق، وانتصر للفضيلة، وأنصف المظلوم.
فإذا زاروا الرسول عكف على سنته وهديه العظيم فتمسك به ولا يعنى هذا مجرد الهدى الظاهر بل الأعظم منها هدى النبى الشامل الكامل وخاصة القضايا النبوية الكبرى التى جاء بها ولأجلها.
وإذا حلقوا شعورهم تحلل عن كل مال حرام وتركه وهجره، وإذا ذبحوا الهدى ذبح معهم وأكرم اليتامى والفقراء قبل غيرهم، وإذا سعوا بين الصفا والمروة عاش بقلبه مع معانى الأمل والرجاء والعزيمة وعدم اليأس وكل المعانى التى تحلت بها هاجر وهى تبحث عن طعام للرضيع العظيم اسماعيل.
وإذا طافوا بالبيت طاف بقلبه حول مرادات الله، وطاف ببدنه باحثا عن الحق والحقيقة، باذلا نفسه وماله للفقراء واليتامى والمساكين، فكل ما فى الحج يرمز إلى فضيلة عظمى، ومن أدى المناسك ولم يتحل بهذه الفضائل كأنه لم يفعل شيئا.
فاذهبوا بقلوبكم ومشاعركم إلى بيت الله الحرام، وسوف ترون من جوائز السماء ما تعجب منه النفوس وتحار فى فهمه العقول، وكل عام وأنتم بخير.