أتفاجأ كل مرة يرد على بها أحدهم بعبارة «أحسن ناس» حين أقول إنى من سوريا. أبتسم خلسة وأتساءل إن كان ممكنا للرد أن يختلف لو كنت أجبت أنا من المغرب أو موريتانيا أو أى بلد آخر. أبتسم أيضا لأن فى داخلى وترا مخفيا يعود إلى الحياة مع اعتراف من أمامى أننا «أحسن ناس». لا أعرف من يعنى فى تلك اللحظة تحديدا، من هم أحسن الناس فعليا، أيعنى السوريين جميعهم؟ أم النساء السوريات؟ أم السوريين الذين يعيشون فى مصر؟ المقولة قابلة لفتاوى عديدة، وها أنا أستخدمها بما يناسب مزاجى يومها.
من هم أحسن الناس؟ وما هو ذلك الوصف المستخدم كغطاء يرميه أحدهم على شعب أو مجموعة بعينهما فيقرر أن جميع من هم تحت الغطاء أولياء بالحب والثقة؟ يقال إن علاقة خاصة تربط المصريين بالسوريين عموما، وأن لدى المصريين استعدادا لفتح أذرعتهم وقلوبهم للسوريين فلا يشعر أولئك الأخيرون بالرفض أو النبذ. هل هذا هو السبب الذى يجعلنى أصدق من يرد على بتلك العبارة؟
***
رغم ما تحمله عبارة «أحسن ناس» من دفء بإمكانه أن يلطف أى توتر فى حديث جاد، وعلى الرغم من وقع جملة كتلك على شخص بعيد عن بلده، فإن أحسن الناس هم، بالنسبة لى على الأقل، من فتحوا لى قلوبهم وبيوتهم وأجلسونى داخلها أشهد على قصصهم وأشارك فى تفاصيلها. أحسن ناس قد يكونون من بلد لم أزره قط وربما لم أسمع عنه سوى القليل، إنما فرش شخصان أتيا منه أمامى خارطة من الحب والعواطف تصورت على إثرها أن بلدهما مضياف وكريم يحمل من يزوره فى عربة مكشوفة وملونة تدور فى شوارعه مستمتعة بيوم خريفى دافئ. كيوم عدت من العمل فى بلد كنت أعيش به فوجدت جيرانى وقد فرشوا الأرض أمام المدخل بتلات الورد ووضعوا فوقها منقلا على فحم يحترق وشرعوا بغلى قهوة من بلدهم احتفالا برجوعى إلى المنزل.
***
أحسن ناس هم أصدقاء لم أرهم منذ سنوات رغم تبادلنا الرسائل الإلكترونية والصوتية أحيانا، إلا أنهم وفى زيارة مفاجئة إلى البلد الذى أعيش فيه يصرون على لقائى ليس فقط بسبب ما جمعنا فى الماضى ولكن أيضا لاهتمامهم الصادق بى وحرصهم على استمرار تغذية صداقتنا بقصص ونقاشات متجددة تضخ أفكارا جديدة وتساهم فى الكشف عن تطور شخصياتنا ونظرتنا إلى الحياة والسياسة وغيرها.
***
أحسن ناس قد يجمعنى بهم اهتمام بموضوع دون غيره، قد يظهر أمامهم بعض من نفسى لا أكشفه أمام «أحسن ناس» آخرين. ألعب لعبة تطبيق «أحسن ناس» على الجوانب المختلفة من يومى: من هم أحسن ناس لفنجان القهوة فى الصباح، ثم أحسن ناس لمناقشة التطورات السياسية، وأحسن ناس بإمكانى أن أرمى عليهم حمل قلبى المثقل؟ من هم أحسن ناس يسعفونى فى حال نظرت للأسفل بدل أن أحاور السماء والغيوم، فيمسكون برقبتى برفق ريثما أعود وأسند رأسى عليها بدل أن يكون مدلوا نحو قدمى؟ من هم أحسن ناس يأخذون بيدى دون أن أشعر حتى بدورهم فى لحظتها فأجد نفسى متجهة إلى بعض الأمان دون أن أحدد ما الذى دفعنى إلى هناك؟ لحظات وتظهر ابتسامة يليها صوت يهدئ من الفوضى فى داخلى، وأفهم بعد ذلك أنهم، وبنعومة لم أشعر حتى بها، رافقونى من وسط النهر إلى ضفته.
***
يذكرنى أحسن الناس أن وجودهم يساعدنى على التنفس بعمق، بدل اللهاث. يذكرنى فنجان القهوة معهم أن ثمة لحظات لا تقدر سوا برائحة البن المحمص مع حب الهال، وهى رائحة لا يمكن احتواؤها فى قارورة ولا يمكن شراؤها بمال. تذكرنى نظرة من عيونهم أنه من الممكن أن يربتوا على دون أن تلمسنى يدهم، فنظرة منهم هى كوشاح حريرى يلتف حولى برقة. أحسن الناس حولى طول الوقت، إذ إننى كثيرا ما أمد يدى فى اللحظة الأخيرة وأتكئ على أحدهم فلا أقع. أحسن الناس يفتحون فى قلبى طاقة يجرى من خلالها دمى بشكل أسرع فأكاد أسمع نبضات قلبى. أحسن الناس قد لا يعرفون الكثير عنى لكنهم يستشعرون طاقتى حين تلتقى بطاقتهم، تتجاذبان كالمغناطيس ونمضى دقائق أو ساعات داخل فقاعة تجمعنا.
***
فى المرة القادمة التى يرد على أحدهم بعبارة «أحسن ناس»، سوف أفكر بكل من أرمى عليه بأجزاء من نفسى فيتلقاها ويحتفظ بها حتى أكون مستعدة لاسترجاعها. سوف أمر على وجوه كل من هم، بالنسبة لى أحسن الناس، سوف أرى تعابيرهم وكأنى أشغل فيلم سينما قديما، وجوه كثيرة وابتسامات ونظرات قلق وغيرها من المشاعر التى يغدق على بها أحسن الناس. أحسن ناس موجودون حولى بكثرة، وربما يجب على أن أقول لهم، بدورى، أنهم «أحسن ناس».