قبل عقد من الآن كان وعى الشعوب العربية أسير عدد محدود من المصادر، كان يشكل هذا الوعى رجال الدين ورجال السلطة ويتبعهم فى ذلك أدوات الإعلام والتعليم. كانت رؤية الشعوب العربية للسلطتين السياسية والدينية محكومة بما تلقنوه عبر سنوات أو عقود من تأميم الحياة العامة فى معظم الدول العربية.
كانت قضايا مثل الديمقراطية والإصلاح والتعددية مجرد شعارات تتردد ولا يلقى لها المواطن العادى بالا إما لأنه لم يؤمن بها أو لأنه لم يتخيل أنه قد يأتى اليوم الذى يتمكن فيه من تذوقها والمشاركة فى صناعتها.
قطعا لا يمكن الادعاء أن الثورات العربية قبل أقل من عقد من الآن كانت بداية تغيير هذا الوعى، فالواقع أن انتشار التعليم وتجاوب معظم الدول العربية مع العولمة إنتاجيا وخدميا وتكنولوجيا بالإضافة إلى انتشار عصر الفضائيات والتحرر من عصر المنبر الإعلامى الواحد قد أدى إلى اتساع آفاق الشعوب العربية وخاصة منذ بداية الألفية الجديدة.
أحداث مثل الانتفاضة الفلسطينية الثانية وهجمات ١١ سبتمبر وغزو أفغانستان ثم العراق فتحت بابا جديدا أمام العالم العربى ليشتبك مع الآخر من خلال بعض الفضائيات المفتوحة التى وفرت الخدمات الخبرية والتحليلية السريعة لكل هذه الأحداث.
***
بمراجعة بيانات المنظمات الدولية مثل اليونيسكو أو البنك الدولى، فإنه ومنذ بداية الألفية الثالثة، فقد شهدت الأمية تراجعا فى العالم العربى وتزايد تعليم الفتيات، كما أصبح بمقدور المزيد من الشباب الوصول إلى مرحلة التعليم العالى. كذلك فإن حرص بعض الدول العربية على تمويل البعثات التعليمية الخارجية، بالإضافة إلى الانفتاح على استثمارات الشركات متعددة الجنسيات واستخدام الإنترنت وظهور بعض المنابر الصحفية المستقلة نسبيا، قد مثّل بداية حقيقية لوعى جديد عام فى العالم العربى.
ولكن كانت الثورات العربية بمثابة نقطة تحول أخرى فى حياة الشعوب العربية ووعيها العام وخاصة فى المساحتين السياسية والدينية. للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحصول الدول العربية تدريجيا على استقلالها تحدث موجات شعبية فى العالم العربى يكون لها مطالب سياسية واضحة. لأول مرة منذ الاستقلال تطالب الشعوب صراحة حكامها بالتنحى والابتعاد عن السلطة، تطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية. صحيح أن بعض هذه الحراكات نجح وبعضها الآخر فشل، صحيح أن بعض من تصدر لهذه المطالب لم يكن مخلصا أو جادا أو حتى كفئا لتحقيق الشعارات التى طالب بها وهو ما أثبتته الأيام لاحقا، لكن الصحيح أيضا أن حركة الجماهير ومهما بلغت أثمانها فقد شكلت نقطة تحول فى علاقة كل الشعوب العربية بحكامها، سواء كان هؤلاء الحكام أفضل أم أسوأ من هؤلاء الذين حكموا الدول العربية قبل عقد من الآن!
بعد الثورات دخلت بعض الدول العربية فى حروب أهلية، بينما دخلت دول أخرى فى مرحلة تحول ديمقراطى، وارتدت ثالثة إلى مرحلة أكثر سلطوية حتى من المرحلة التى سبقت الثورات، وقع الكثير من الضحايا وسُجن أو فُقد آخرون، وفقد البعض عقله واتزانه أو حتى ضميره وكرامته، ظهر أن بعض من تصدر الثورات لم تكن إلا مجموعات محدودة الرؤية أو عدمتها من الأساس، البعض الآخر لم يكن أكثر من مهرج أو منتهزا للفرصة، لكن الحقيقة فإن الأمر لا يتعلق بمن قام بالثورة أو دعا لها فقط، لكنه أيضا يتعلق بالكيفية التى تغيرت أو تتغير بها الشعوب ثقافيا على المدى الطويل.
سياسيا، لم يكن يطلع أو حتى يعرف الكثير من أبناء الشعوب العربية عن الدساتير التى تحكمهم أو القوانين التى تنظم حياتهم، أو طبيعة من يحكمونهم، كان الوعى السياسى محدودا، لم يكن للشأن العام أهمية كبرى فى حياة الملايين، فكانوا مجرد مستهلكين للثقافة ومتلقين لما يتم طرحه عليهم باعتباره حقائق شكلت رأيهم فى القضايا العامة. قبل عقد من الآن كانت معظم الشعوب العربية لا تقف فى طوابير الانتخابات ولا تفهم أصلا معنى البرامج الانتخابية أو عن العلاقة بين السلطات أو عن أدوات مثل المحاسبة أو الشفافية. قبل عقد من الآن كانت معظم المؤسسات الحكومية صناديق سوداء للمواطنين لا يجرؤ أحد على مناقشة ميزانيتهم أو أنشطتهم أو طبيعة الأشخاص العاملين بها أو من يتولون قيادتها. بعد الثورات، تغير كل ذلك، أصبح المواطن العربى فى العديد من الدول العربية يقف فى طوابير الانتخابات، يطلع على الدستور، ينظم الحراكات العامة، يطالب بالمحاسبة والمساءلة والشفافية ويهتم بمتابعة كل القضايا العامة ويحرص أن يكون له رأى فيها!
***
صحيح مرة أخرى أن كل هذه التغيرات السياسية فى العديد من الدول العربية تم تصفيتها لاحقا، وصحيح أيضا أن المواطن العربى عاد للانكفاء على شأنه وحياته الخاصة وأصبح يصارع من أجل مجرد البقاء، لكن مخطئ من يعتقد أن هذا التحول كان مجرد استثناء، الحقيقة أن هذا الوعى السياسى الجديد، وهذا التغيير السياسى الذى مارسته وشاركت فيه الجماهير حتى وإن زال، لكن أثره على الذاكرة الجمعية يبقى بل وسيكون حافزا لاحقا لمزيد من التغيرات فى المستقبل.
حتى شعوب الدول العربية التى لم تشهد هذه الثورات فى ٢٠١١ قد حاولت الدفع فى اتجاه التغيير لاحقا وما زالت تحاول وستظل دائما لأن خبرة انتفاضات ٢٠١١ وما ارتبط بها من ثورة الوعى العام لا يمكن أبدا محوها أو تجاوزها مهما حاول البعض.
دينيا، فقد كانت مكاسب الثورات العربية مضاعفة، فالثورات العربية مثلها مثل كل الثورات العالمية قد عرت ورقة التوت التى لطالما دارى بها رجال الدين وعلماؤه فى العالم العربى عورتهم. هذه التعرية لم تكن فقط لتحيزات رجال الدين السياسية والكشف عن انتهازيتهم وتبعيتهم وضعفهم أمام الحكام، لكن الأهم أنه تمت مراجعة حدود قدرات رجال الدين ومعارفهم العامة، والتى اتضح أنها فى معظم الأحوال لا تساوى إلا صفرا كبيرا.
فهم عدد كبير من المواطنين العرب وخصوصا من فئة الشباب أن تلك السلطوية الخالصة التى مارسها عليهم رجال الدين لعقود متحكمين فيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويتعاملون ويتنفسون تحت دعوى أنها تعاليم الله، ما هى إلا اختراعات خالصة لهؤلاء الكهنة من أجل السيطرة عليهم وسلب إرادتهم.
انكشاف تهافت عدد كبير من رجال الدين ومؤسساته، جعل هناك تمرد تدريجى عليهم وعلى وعظاتهم وفتاويهم، وحتى من يخاف أن ينطق بذلك صراحة خوفا من أو تأجيلا للمواجهة، فإنه أصبح يتمرد سرا على هذه الكهنوتية الخالصة.
الحقيقة أن انتشار ظواهر جديدة على المجتمعات العربية مثل الإلحاد أو خلع الحجاب أو فى طريقة التعامل مع الجنس الآخر، وبغض النظر عن تقييمنا لهذه الأفعال ومدى صحتها دينيا أو مجتمعيا، فإن الحقيقة أنها ظواهر تمرد وردود فعل يتسم بعضها بالراديكالية، ولكنه يعبر عن هوية جديدة تتشكل بواسطة وعى جديد لمراجعة ماهية الدين وماهية رجاله، بل وماهية الذات قبل كل ذلك.
***
النظر إلى الظواهر سالفة الذكر بعين الأبيض والأسود، الحرام والحلال، هى سطحية فى رؤية الأمور وفهم محركات ودوافع هذه الظواهر، لا يهم أن تسجل موقفك الآن من خلع الحجاب أو أزياء وتصرفات السيدات والشباب أو حتى من الإلحاد، ولكن المهم أن تعرف أن كلها تطورات تعبر عن ثورات ثقافية واجتماعية بدأت فى التشكل قبل أعوام وما زالت تتشكل وأنها فى يوم ما سوف تؤدى إلى تغيرات أوسع سياسية واقتصادية فهذه هى حركة حتمية للتاريخ وتطلب ردود فعل متفهمة ومناقشة وناصحة لا ردود فعل عنيفة تبحث عن مجرد تسجيل الموقف!
إن ما حدث فى مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن والبحرين فى ٢٠١١، وما يحدث الآن فى لبنان والسودان والجزائر رغم مرور أكثر ما يقرب من عقد على موجة الانتفاضات العربية الأولى، وبغض النظر عن اختلاف التقييمات لمدى نجاح أو فشل هذه الانتفاضات، يقول إن وعيا ومعرفة جديدة آخذة فى التشكل وأنه مهما طال الزمن فلا يمكن أبدا منع حركة التاريخ، الإصلاحات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية ما زالت قائمة لمعظم الشعوب العربية وستظل كذلك حتى يحصل المواطن العربى على وطن وحياة آدمية يستحقها.
هذا ليس تبشيرا بانتصارات حالة أو تغيير قريب، لكنه تحليل لما انطلق ولا يمكن إيقافه مهما طال الزمن وبلغت الخسائر والتضحيات.
استدراك: ورد سهوا اسم «مارتن لوثر كينج» باعتباره مؤسسا للفلسفة البروتستانتية، والحقيقة أن الاسم الصحيح هو «مارتن لوثر»، لذا لزم التصحيح والاعتذار.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.