ذكر كاتب هذه السطور فى محاضرة حول النظام العربى قبل سنوات سبع ونصف السنة أن هذا الأخير بدأ يتلاشى ويتفكك فى نظام شرق أوسطى بعد أن فقد خاصيته العربية بفقدان القدرة عبر قواه الأساسية التى كانت تلعب دور قاطرة النظام أو نقطة الثقل فى التفاعلات الأساسية فيه؛ الدور الذى كان يحدد أجندة النظام وأولوياته وكيفية ادارة انماط السياسات فيه. لا يعنى ذلك بالطبع غياب تأثير قوى اقليمية ودولية بشكل مباشر فى سياسات النظام لكن محور تلك السياسات كان دائما فى قلب النظام.. فراغ القوة ملأته بشكل اساسى قوتان اقليميتان اسلاميتان: ايران وتركيا.. ساهم فى ذلك دون شك، انتشار منظومة قيم الاسلام السياسى بأشكالها المختلفة فى المنظومة السياسية العربية. الأمر الذى أعطى لدور هاتين القوتين شرعية مجتمعية فى العالم العربى وساهم فى فتح أبواب مجتمعاته أمامهما وذلك على حساب تراجع الهوية العربية. كما تقف وراء هذا الدخول القوى للقوتين الاسلاميتين فى العشرية الماضية النظام العربى عناصر عدة منها سقوط الحاجز العراقى أمام ايران عام ٢٠٠٣؛ حاجز الدور الموازن الذى تحول إلى جسر عبور ايرانى أساسى إلى المنطقة. عنصر آخر يتعلق بتركيا: تركيا العائدة بعثمانية جديدة حملت عنوانين جاذبين أولهما نموذج ناجح لإسلام سياسى فى الحكم آنذاك جاذب للرأى العام العربى وثانيهما دور موازن للدور الايرانى فى المنطقة.
سنوات خمس مضت على ما اتفق على تسميته بالربيع العربى، وانا أفضل تعبير الزلزال العربى الحامل لارتدادات ما زالت مستمرة ومنتشرة. هذا الوضع فتح الباب على مصراعيه عبر البوابة السورية للصراع التركى الايرانى فى الملعب العربى فيما العلاقات بينهما اكثر من طبيعية خارج هذا الملعب.
المشهد العربى اليوم يحمل السمات التالية:
ــ انتشار «الصوملة»: أنظمة سقطت وأخرى اهتزت أو فى طريقها إلى السقوط حملت معها مخاطر احتمال تفكك الدولة وسقوطها. بالطبع تشكل الحالتان المصرية والتونسية استثناء لطبيعة الدولة وترسخ مؤسساتها فى الحالة الاولى، والتماسك المجتمعى الهوياتى فى الحالة الثانية بشكل خاص، مقابل انتشار مخاطر تجويف الدولة وانهيارها من ليبيا إلى اليمن مرورا بسوريا.
ــ يقظة الهويات ما دون الوطنية: هويات حملتها أطراف غير الدولة تقاتل باسمها فى الحروب الأهلية الدائرة فى دولها وفى دول أخرى. هويات بعضها خائف من الماضى وبعضها الآخر خائف من المستقبل. بعضها يريد أن يصنع المستقبل على صورة الماضى كما يراه، وبعضها الآخر يريد أن يهرب من الماضى إلى مستقبل لطالما حلم بتحقيقه.
ــ تكرس صدام المذهبيات ضمن العالم الاسلامى: صدام يقتات على الصراع الاقليمى من جهة ويساهم فى تعزيزه من جهة أخرى. صدام يكرس خطوط تماس هوياتية ضمن الدولة الواحدة، خطوط تماس ايضا عابرة للدول فى الاصطفافات الذى صنعها هذا الصدام فى المشرق العربى.
ــ مخاطر انهيار الدولة قائم بقوة فى الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية سايكس ــ بيكو: يدل ذلك كله على فشل بناء الدولة الوطنية، الدولة الاستقلالية. فهل نحن اليوم أمام بلقنة جديدة تعيد رسم خرائط الدول أم نحن أمام نوع من لبننة التسويات (صياغة عقد جديد بين مختلف المكونات الاجتماعية فى الوطن الواحد)؟
ــ ازدياد تردى الأوضاع الاقتصادية بانعكاساتها الاجتماعية الخطيرة فى الدول التى شهدت التغيير، تغيير الربيع العربى، وفى دول أخرى. كما أدى سقوط أسعار النفط إلى طرح موضوع الدولة الريعية فى الدول النفطية للمرة الأولى وبشكل جدى باتجاه البحث فى دور مختلف للدولة أمام هذه الأزمة الهيكلية العاصفة باقتصادات هذه الدول والتى لها انعكاسات سلبية أيضا على الدول المصدرة للعمالة. فالأزمة الاقتصادية الاجتماعية تزداد مخاطرها على المجتمعات العربية فى ظل حرب باردة اقليمية وحرب أهلية عربية تقتات من جهة وتساهم من جهة أخرى فى الحروب الأهلية القائمة، حروب ما بعد الربيع العربى. حروب تؤدى إلى نزيف بشرى واقتصادى واجتماعى كبير فى هذه الدول وفى المنطقة.
ما نشهده اليوم هو بوادر نشوء نظام فوضى اقليمية. ان مواجهة هذا التحدى على الصعيد العربى لا يكون عبر بيان من هنا أو اعلان من هناك يعبر عن لحظة تضامن دبلوماسى. لحظة تعكس تأييدا قد يكون واسعا ولكن بدرجات مختلفة لا تفى بالهدف المنشود. لحظة لا تستطيع أن تبلور بذاتها استراتيجية شاملة ذات أبعاد واولويات محددة تسمح بانخراط فعلى واسع وفعال فى هذه الاستراتيجية لإنقاذ المركب العربى من الغرق. ان المطلوب لعملية الانقاذ هذه وقفة عربية مع الذات للتعامل بنجاح مع تحديات خمسة:
ــ لا يمكن مواجهة حالات التمزق وسياسات التمزيق المذهبى والطائفى بخطاب مشابه أيا كان الغطاء الذى نحاول أن نعطيه لهذا الخطاب، بل المطلوب بلورة خطاب عربى جامع يشكل نقيضا مفاهيميا لخطاب الهويات الفئوية، مطمئنا لأبناء هذه الهويات.
ــ العمل على بناء الدولة المدنية القائمة على انتماء المواطنة حيث لا تهميش ولا عزل لأى مكون اجتماعى فى تلك الدولة. دولة تعتبر أن الحفاظ على التنوع فى اطار الوحدة هو مصدر غنى لا مصدر تهديد لأحد.
ــ ايلاء الشأن التنموى بكل أبعاده على الصعيدين العربى الشامل والوطنى الخاص الأولوية التى يستحقها لبناء الاستقرار الشرعى المطلوب وليس الاستقرار المفروض ولمعالجة الاختلالات الهيكلية القائمة فى الاقتصادات الوطنية.
ــ التفكير بتشكيل لجنة حكماء عرب من شخصيات تحظى باحترام ومكانة لمواقفها وخبرتها فى جميع انحاء العالم العربى، تتولى ما يعرف بدبلوماسية المسار الثانى أو المسار الموازى لاستكشاف امكانات محاصرة الحرائق القائمة والقادمة وتوفير مقترحات لإطفائها إلى صناع القرار.
ــ فى اطار تحديد الأولويات العربية المشتركة، العمل على اطلاق حوار مع القوتين الجارتين، ايران وتركيا. حوار يقوم على منطق الدولة وتنظيم الاختلاف واحتوائه بين الدول وليس على منطق الايديولوجيات الهوياتية العابرة للدول والتى تتحدث من منطلق «ما فوق الدولة» لإقامة علاقات طبيعية منظمة للاختلاف متى وجد وحاملة لآليات تسويته اذا امكن.
خلاصة الأمر، عشية القمة العربية، أن المطلوب لقاء عربى من نوع آخر. لقاء يناقش هذه النقاط ويبلور الأجوبة عليها بعقل واقعى، منفتح، ونقدى. فهذه مسئولية الجميع وخاصة القوى العربية الرئيسية حتى يعود العرب بقوة إلى جغرافيتهم العربية، فلا يسقطوا أمام امتحان التاريخ فتنبذهم الجغرافيا. والتاريخ لا يرحم.
كاتب سياسى لبنانى