أزمة الحركة الإسلامية وجمهورها العريض تكمن فى أمور منها عدم التفريق بين الداعية والفقيه، والواعظ والمفتى، والداعية والسياسى، والأديب والفقيه، فإذا بالشباب يترك الفقيه والمفتى فى المسائل الخطيرة ليتلقى من الواعظ والداعية فتواه وكلماته وأحاديثه فى أخطر مسائل الدماء والحروب وتكفير الحكام والعوام أو استباحة دماء الجيوش الوطنية أو الشرطة المحلية أو الخروج المسلح على الدولة وأجهزتها الامنية.
وقد يخلط هؤلاء بين الأديب والفقيه فيأخذ عن الأديب كلماته الرنانة وعباراته التى تدغدغ العواطف.
وهذا ما حدث مع كل من تأثروا بسيد قطب فأنزلوا المعانى الأدبية العامة وكلماته الفضفاضة التى تحمل عشرات الأوجه منزلة المحكم من القرآن أو الثابت من السنة أو المجمع عليه من الدين دون أن يفرقوا بينه كأديب وبين المفتى والفقيه الذى يزن كلماته بميزان الذهب.
فالعقائد وأحكام الكفر والإيمان والدماء لا تؤخذ من كلمات الأديب ولا الواعظ المتهيج ولا الخطيب المتحمس ولا الإعلامى فكلهم أعينهم على المتلقى قبل النظر إلى الله، ومعظمهم لا يقرأون واقعهم بعناية وما يصلح له ويناسبه من أحكام الشريعة.
وزاد الطين بلة إنزال كلمات الثائر المهتاج الذى يريد هدم الكون ثم إعادة بنائه على نمط يتخيله فى عقله وبين المصلح الحكيم الذى عركته الأيام ورسخت فى عقله آلاف التجارب وجمع عشرات العلوم فإذا بالجموع الغفيرة تترك كلمات المصلح الحكيم لتطوف حول هتافات الثائرين التى قد تفتقر إلى أدنى درجات العقل والحكمة والتى لو سار الكون بها لانهدم كل يوم مرات.
أما التفريق بين رجل الدعوة والوعظ ورجل الدولة فيغيب كثيرا عن الإسلاميين وخاصة بعد الثورات، بل يغيب الفرق بين فقه الدعوة وفقه الدولة، ولو ترشح رجل الدولة ورجل الدعوة على مناصب رفيعة فى الدولة فى الانتخابات الحرة لفاز رجل الدعوة لأنه أقرب إلى الناس ودغدغة عواطفهم مع أنه قد لا يعرف كيف يدير محافظة أو حيا.
وليس عيبا فى رجل الدعوة عدم فهمه وإدراكه وإحاطته بفقه الدولة وكيفية إدارتها، ولكن العيب أن ينصب نفسه لما لا يعرفه ولا يتقنه، وعيب الناس أن يورطوه فى ذلك ويشجعوه عليه، فليس عيبا ألا يعرف الطبيب النفسى إجراء جراحة قلب ولكن العيب أن يدخل غرفة العمليات ليجريها ويشجعه الجمهور على ذلك.
وقد تجد داعية أو واعظا يقفز من موقع الوعظ إلى الترشح لرئاسة الجمهورية وهو لم يدرس ولا يعرف شيئا عن السياسية والدولة، فيظن أن رجل الوعظ والدعوة يصلح لحكم الدولة والأدهى من ذلك التأييد الكاسح الذى يلقاه من الجموع الغفيرة ولولا منع من الترشح لفاز، فهى أزمة مشتركة بينه وبين الناس، فلا هو عرف مهمته ولا الناس أدركوا قدراته.
كلمات الثوار والوعاظ والدعاة والساسة والأدباء هى التى يتبعها أكثر الشباب والعوام وتروق لهم أكثر بكثير من كلمات الفقهاء والعلماء والحكماء التى تكون عادة أكثر تريثا وحكمة وأناة وترفقا ورحمة وعفوا وصفحا.
والعقل الجمعى خاصة فى وقت الهياج لا يحب عقول الفقهاء والحكماء والعلماء لأنهم لا يشترون رضا الناس بسخط الله ولا يدغدغون العواطف أو يستثيرونها بالكلمات الرناتة الطنانة، وما أزمة الشيخ يعقوب كواعظ إلا جزء من هذه الأزمة فأنصاره وأتباعه كانوا أكثر من أتباع أكثر علماء الأزهر رسوخا فى العلم والتقوى.
لقد أثرت أفكار الأديب المعروف سيد قطب فى كل الجماعات التى حاربت حكوماتها ورفعت السلاح عليها لأن عبارات الأديب الرنانة أقوى أثرا من كلمات الفقيه الدقيقة.
أكثر الشباب والعوام يتصور أن كل متحدث فى الدين قادر على صياغة الأحكام الفقهية لأنهم يرون قدرته على تنميط الكلام وشحذ الهمم واستشارة العواطف والتحدث فى موضوعات عامة مختلفة بأحاديث عامة فيها إطلاقات مخلة وغير موضوعية، ناسين أن صناعة الفقيه أو المجتهد فى الفقه تستغرق عشرات السنين حتى يتعلم القياس والاستنباط ويعرف حكم الله فى المسائل ويقرأ الشريعة والواقع جيدا ويستطيع قياس المصالح والمفاسد ويدرك فقه الأولويات والمآلات.
ولا يعنى ذلك أن الواعظ والداعية مذموم ولكن عليه أن يعرف قدره وأن يدرك السامعون قدره، فلا يسألوه عن المسائل الخطيرة وخاصة فى الدماء والأموال والأعراض والمسائل العامة والتى تنظم أمر الأمة والدولة.
أحيانا قد يقع اللوم على الشباب والدهماء والعوام الذين يجبرون الواعظ والداعية بل وقارئ القرآن بصوت جميل والأديب والإعلامى أن يقفز فجأة من دوره الوعظى إلى دور من يفتى فى أدق المسائل وأصعبها ويبيح الدماء المعصومة أو يكفر الخلائق بل يكفر بالجملة.
ومن أكبر المصائب التى عشتها بنفسى أنك ترى الشباب المتدين الغض الطرى كلما أعجبه خطيب أو متحدث نقله من خانة الكلام الوعظى العام إلى أن يكون مسئولا عن جماعة أو جزء هام من جماعة قد تتورط بكلماته فى الدماء المحرمة.
بل إننى رأيت البعض يلتقط كلمات عابرة من خطيب أو واعظ ليكفر أشخاصا بعينهم ثم يعمد إلى تصفيتهم واغتيالهم، ولو أنه تريث قليلا ليجلس فقط إلى هذا الداعية لأقنعه أنه لا يقصد هذا المعنى الذى ذهب إليه وأنه ينقده ولا يكفره ويلومه ولا يعتبره عدوا للإسلام.
فالداعية وإمام الصلاة وخطيب الجمعة والواعظ والباحث والمفكر والإعلامى والأديب كلهم يختلفون جذريا عن الفقيه، ولا تؤخذ عنهم الأحكام الفقهية العادية فما بالكم بأحكام الكفر والإيمان، وما فيه تمزيق للأمة وتكفير للخلائق وشق للصفوف وهدم للثوابت وإراقة الدماء وبث الخوف والرعب بالتفجيرات والاغتيالات.
لم ينتبه أحد أن سيد قطب سمى تفسيره «فى الظلال» وهو تفسير أدبى فضفاض لا تؤخذ منه أحكام، وتعظيم وتقديس صاحبه هى جناية عليه قبل أن تكون جناية على الإسلام، فكل من ناقش أو نقد «الظلال» يرفع له لواء: أين أنت من الشهيد.
نحن لا نعيب أشخاصا ولكننا نقرر بوضوح أن هذه الكتب تحمل رسالة تكفيرية لا تخطؤها العين المبصرة، وتحول حكام المسلمين جميعا ومعهم المؤسسات السيادية إلى معسكر الشرك فى قريش، وتحول كل الجماعات إلى جماعة الرسول الأولى.
كل هذه الإنزالات تمت فى عقول الشباب من الستينيات وحتى أبو بكر البغدادى الذى قرأ الظلال عشرات المرات فى سجن بغداد.
إن أزمة مصر والعالم العربى أن الواعظ والداعية مصدق فى كل شىء حتى وهو يتحدث عن السياسة والاقتصاد والعسكرية والعلاقات الدولية والاستراتيجية التى لا يعرف عنها شيئا.
أما أزمة الداعية نفسه أنه يستقصى معلوماته دوما من مجموعته من أصدقائه قد يكونون فى منتهى الضحالة فى هذه المسائل، عليه أن يكتفى بالوعظ والدعوة فحسب، فلا يعنى كونك داعية أن تتحدث فى كل هذه القضايا، ولابد لهؤلاء وكذلك الإعلاميين أن يعترفوا بضحالة علومهم فى أكثر المسائل التى يتحدثون فيها، ولذا يقع هؤلاء جميعا بين مطرقة التكفير وإلغاء الآخر أو النفاق الممجوج، ولا ثالث لهما.
سلام على العلماء والحكماء.