فى ختام جلسة جمعتنى بصديقة قديمة فى أحد مقاهى دمشق منذ سنوات بعيدة، أنهت الصديقة لقاءنا بقولها «فى الآخر، أنا وأنت وكلنا ورقة نعوة» تعد ورقة النعوة من أهم المنشورات اليومية فى سوريا، ومدعاة لأن يتوقف الماشى فى الشارع أمام حائط تم لصق هذا النوع من الإعلانات عليه، ليترحم على من تم الإعلان عن موته. يمعن القارئ فى أسماء الأقرباء المدرجة فى الصفحة عله يتعرف على أحدهم فيقتضى ذلك أن يذهب إلى مجلس العزاء لتقديم كلمات مثل «البقية بحياتكم وعظم الله أجركم»، فتوقيت ومكان العزاء محددان فى أسفل الصفحة ذاتها.
***
أعترف أننى، وقت ذلك الحديث البعيد مع صديقتى، لم أستوعب تماما ما عنته، وأزعجتنى نهاية حديثنا بعض الشىء. جلستى معها حدثت منذ قرابة العشرين عاما، أى أننى كنت فى عمر لم أكن أفكر فيه بالموت كثيرا، جزئيا بسبب بعده عنى وعن أبناء عمرى عموما ــ اللهم إلا بعض الحوادث الصادمة وغير المتوقعة، وبسبب بعد بلدى عن أخبار الدم والدمار الذى تتمرغ فيه اليوم. أكثر من كنت أقرأ عن إعلان موته على جدران مدينة دمشق فأهتم بتفاصيل العزاء كانوا أجداد وجدات أصدقائى، لذا فحين أنهت صديقتى جلستنا بعبارة رأيتها حتمية وحزينة، لم أعلق سوى قولى لنفسى إننا ما زلنا شديدتى البعد عن ورقة إعلان مجلس عزائنا.
***
لم أدرك وقتها أن عبارة صديقتى سوف تلتصق بى رغم نفورى منها، فتظهر لى فى كل مناسبة كنت أواجه فيها موقفا صعبا، تنخر الكلمات جدار رأسى وأسمع الصديقة تسأل: هل الموضوع يستحق كل هذا الإزعاج؟ تذكرى أنك فى آخر الأمر ورقة نعوة. كانت تلك الجملة جديرة بدفعى إلى إعادة تقييم الكثير من المنغصات من حولى لأسأل نفسى عن أهميتها الفعلية وتأثيرها على حياتى فى صورتها الأكبر.
***
من جهة أكثر فكاهة، أذكر كيف كانت الشجارات العائلية حول «ورقة النعوة» تثير رغبتى فى الضحك حين كنت أشهدها. حتى فى إعلان الموت يجد السوريون مكانا للبروتوكول وللتمسك بما يرونه الأصول و«بصير وما بصير». فالورقة تبدأ بعبارة دينية بحسب ديانة من توفى، ثم يتم ذكر أسماء أقارب الفقيد أو الفقيدة، بدءا من الأقرب كالزوج والزوجة إن كانوا متزوجين، ثم الأبناء مع الحرص فى معظم الأحيان على ذكر الأبناء الذكور فقط وعدم نشر أسماء البنات، وهو شىء تغير قليلا أخيرا وضمن بعض العائلات القليلة التى قررت الابتعاد عن التقاليد الصارمة فباتت تدرج أسماء زوجة الفقيد أو بناته. يلى أسماء الأقارب الأقرب إن كانوا موجودين ثم تعداد جميع العائلات المرتبطة بمن رحل، وهو موضوع أكبر المشاحنات وأكثرها توترا فى الساعات القليلة التى تلى موت الشخص وتسبق الإعلان الرسمى فى الورقة التى سوف تلصق على جدران المدينة. أى عائلة سوف نذكر أولا؟ وهل نذكر اسم العائلة التى نقاطع بعض أفرادها منذ سنوات وتكون هذه مناسبة للمصالحة أم نتجاهلهم فيفهمون أن القطيعة أبدية؟ هل نذكر عائلة طليق الابنة؟ طبعا نحن مضطرون أن نذكره رغم لؤمه فهو والد الحفيد، وما إلى ذلك من مواضيع تجتاح مساحة النقاش بأكملها تقريبا فتنشغل فيها العائلة بعض الوقت وتنفس عن بعض العواطف والمشاعر عن طريق الشجار حول تسلسل الأسماء وأحقيتها بتبوؤ منصب مهم فى «ورقة النعوة».
***
والحق يقال إن نقاش «ورقة النعوة» يستحضر قصصا كثيرة تفرشها العائلة فى الغرفة التى تجلس فيها قبل العزاء، فنتذكر الخالة العجوز وهى تخبئ الحلوى فى خزانة ثيابها وتنساها هناك فتلتقط الحلوى طعم صابون الغار الذى تدسه الخالة بين ثيابها. ونتذكر أيضا العم «النسونجى» الذى لا يترك صبية تنفذ من كلماته ونظراته. وتظهر فجأة وجوه كثيرة كان قد تم استبعادها من مناسبات عائلية سابقة بسبب مواقف تعود إلى الأذهان أثناء كتابة «ورقة النعوة».
***
وأنا، ما الذى أريد أن يكتب على «ورقة النعوة» خاصتى؟ أولا لا أريدها باللونين الأبيض والأسود وبذلك الخط الصارم الذى يضفى على الصفحة قسوة لا أحبها. أريد ورقة تحتفل بحياة عشتها بدل ورقة تحزن لرحيلى. أريد أن تحمل ورقتى ألوان قوس قزح يظهر بالرغم من العاصفة فيجبرنا جميعا أن نبتسم ونتذكر أن الحياة جميلة. أريد أن يترأس ورقتى بيت شعر فى حب دمشق أو فى الحب عموما فيدخل فى قلب من يقرأ السطر الأول ذلك اللون الذهبى الذى يظهر من أعمق ما فى داخل أحدنا حين يغمرنا الحب. أريد أن يسمع من يقرأ ورقتى عزفا على الدربكة ترقص معه القلوب بدل أن تبكى، كم أحب النقر على هذه الآلة التى أظن أنها لم تأخذ حقها فى الأهمية، وهل من إيقاع فرح دون الدربكة؟ ربما فى الآخر كلنا «ورقة نعوة» كما قالت صديقتى البعيدة، إنما من جهتى أريدها دعوة للاحتفال وليس للحزن، أريدها نداء لمن افترقت عنهم بدل الاستمرار فى الجفاء. ورقتى سوف تحتفل بأصدقائى وبحياة ملؤها الحب، فالحب هو ما يجعل حياتى تستحق أن أعيشها كما هى، بحلوها ومرها.