يبدو لنا فى إطار المأزق الراهن أن البعض قد أيقن أنه لا يمكن بأى حال من الأحوال الاعتماد على المدخل الأمنى لمعالجة ما نحن فيه بعد الانقلاب فى الثالث من يوليو، ولاشك أن استمرار المظاهرات والمسيرات واتساع جغرافيتها، وازدياد مساحات خرائط الغضب يحمل فى طياته ضرورة أن يبحث الجميع فى فتح ما يمكن تسميته الأفق السياسى الذى يجب أن يتصدر المشهد لمعالجة هذا المأزق السياسى الذى طال مصر بعد الانقلاب.
•••
واحد من أهم هذه الشواهد والمؤشرات يقع فيما يسمى بالمبادرات والوساطات، ومن المهم أن نذكر أن المبادرات التى قد صدرت بعد الانقلاب بأيام وربما أسابيع وقد حملت بعض المقترحات للخروج من هذا المأزق مبكرا، إلا أن من الواضح أن المناخ فى ذلك الوقت لم يكن ناضجا لتقبل هذه المبادرات، ولم تكن المسارات التى تتعلق بمقاومة الانقلاب قد تراكمت على هذه الصورة، ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذه المبادرات وئدت فى مهدها وإن ظلت بعض أفكاره يتلقفها البعض من هنا أو هناك لتكون نواة لمبادرات أخرى، ثم انقطع بعد ذلك حبل المبادرات لنرى تصعيدات غاية فى الخطورة للحل الأمنى الذى وصل لأقسى درجات البطش وأقصى حالات الطغيان وفى إطار من فض همجى للاعتصامات، والذى أشر بدوره على صعوبة الخروج من هذا المأزق فى إطار حل أمنى لا يعرف إلا لغة القمع والبطش فأدى فى كثير من أموره إلى عكس مقصوده باتساع مساحات الغضب وامتداد ساحات التظاهر، وبدا الأمر مواجهة حقيقية بين تصنيع الخوف من جانب أصحاب هذا الحل الأمنى وبين كسر حاجز الخوف وقتله فى النفوس من جانب هؤلاء الذين يقاومون الانقلاب ويحاولون كسر إرادته.
وفى هذا المقام ومنذ قرابة الأسبوعين بدا سيل آخر من المبادرات ينهمر على الساحة ضمن انفجار يتعلق بأخبار حملتها الصحف والفضائيات معا تتحدث عن لجان وساطة، وعن مبادرات جديدة، وعن معالجات سياسية أو مصالحات محتملة أو وساطات ممكنة، حملها أشخاص، وكذلك صدرت عن بعض تكوينات وتنظيمات على الساحة السياسية حتى أننا نلحظ ما يمكن تسميته بـ«هوجة المبادرات» وللأسف الشديد فإن هذه الهوجة من المبادرات اقترنت معها «شبورة» من الإعلام حول مبادرات هنا وهناك والحديث عن تحركات قد تتم فى الأجل القريب، وغاية الأمر فى ذلك أن نرى فى هذه المبادرات وصدورها على هذا النحو فى ظل هذه «الشبورة» الإعلامية والضبابية التى تحيط بها، وبالقائمين عليها فضلا على غموض أهدافها والتعتيم على آلياتها، بل والتمويه على بعض مساراتها وبنودها، كل هذه الأمور لم تعالج فى ظل هذا الموقف بالشفافية الكاملة، والمصارحة الواجبة، وسقطت بعض هذه الوساطات فى فخ يتعلق بإبداء الرأى فى أطراف فاعلة فى هذا المأزق السياسى، وبدا هؤلاء الوسطاء ينتقدون طرف دون طرف منتهكين فى ذلك مبادئ الحياد الواجب والوساطة من غير انحياز، ذلك أن فن الوساطة لا يحتاج فحسب حشد القدرة على التعامل مع فنيات هذه العملية، بل القدرة على القيام بهذا الدور فى سياق شروط تحقق لهذه الوساطات القبول والقابليات والقدرة على طرح بدائل لحلول متعددة ومسارات متنوعة تؤكد على إمكانات الخروج من المأزق ودفع الأطراف إلى أن يكونوا جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة أو المراكمة فى تأزيمها.
•••
فضلا على ذلك فإننا سنجد ما يمكن تسميته افتقاد الوسط المناسب (الوقت والمناخ) لإنضاج مثل هذه المبادرات والوساطات حتى يمكن أن تصادف طرائق النجاح فى التعامل مع مفاصل الأزمة وجوهرها، ولكن للأسف الشديد صدرت هذه المبادرات من دون أى بوادر تتعلق بحسن النوايا والتمهيد لبناء قواعد ثقة جديدة تسير فى طريق المكاشفة والمصارحة قبل المفاوضة والمصالحة، وتؤكد المعانى التى تشير إلى مستلزمات لأن تضمن طريقا ممهدا لتلك المبادرات والوساطات بتهيئة المناخ الملائم لمثل ذلك الأمر، وليس من المناخ الملائم بداهة القتل والخنق والحرق والقنص والاعتقال، كذلك من المشاكل الحقيقية فى هذا المشهد أن يكون الإعلان عن هذه المبادرات بشكل أو بآخر ضمن عميلة إطلاق قنابل دخان للتعتيم على شىء يُحاك فى الخفاء أو لتفادى ضغوط من جهة هنا أو هناك.
إن من الأمور المهمة فى هذا المقام أن يعرف الجميع أنه لضمان الوسط المواتى لهذه المبادرات والوساطات لابد أن يتوقف أصحاب المسار الأمنى الباطش بما يمكن إعداد الأرضية للقيام بإعلان نوايا ليس بالأقوال ولكن بالأفعال، من مثل الإفراج عن المعتقلين ووقف هذه المحاكمات الانتقائية والانتقامية، ومن ثم فإن الأمر ليس فى إصدار مبادرات أو فى الإعلان عن وساطات ولكن الحقيقة فى بناء بيئة قادرة على تفهم التكلفة العالية لانسداد الأفق السياسى، وما يحمله ذلك من خطورة على مستقبل مصر السياسى والجماعة الوطنية، لا أن نجبر الطرف الأضعف أو نتواطأ عليه أو أن نطالبه على أن يتجرع السم، ولكن من الضرورى أن نطالب الطرف الأقوى الذى يبطش ويطغى بأن يتوقف عن ذلك وأن يتعامل مع الموقف بما يتطلبه ويقتضيه من بناء أرضية يجب أن يكون المدخل الأساس للخروج من هذا المأزق.
•••
الأمر يحتاج منا التعامل مع انفتاح الأفق السياسى كضرورة مجتمعية لإنقاذ مشروع الجماعة الوطنية ومستقبل مصر السياسى فى إطار يستند إلى أصول الشرعية والمسار الديمقراطى التعددى ومكتسبات ثورة الخامس والعشرين من يناير، وفى هذه الحالة فقط نستطيع أن نتلمس بداية الطريق الصحيح لتهيئة المناخ لعمل سياسى حقيقى يغير وجه مصر الثورة ويضمن مستقبل الوطن ويحقق مصالح الشعب ويحمى قدرات الأمة ويوفر الأمن والأمان الذى يحقق كرامة المواطن ومكانة الوطن، إن هذه الحالة من التأزيم التى نعيشها لا يمكن أن تسهم فى هذا المسار ومن المهم أن تنفتح العقول بمقدار ما تتسع له آمال الأوطان وعمارة البلدان والحفاظ على كيان الإنسان.