لاحظت أخيرا أن ابنتى الصغيرة، آخر العنقود وأكثره دلالا، صارت تتفنن بمحاولتها أن تقضى معى وقتا وحدها، دون أن يشاركنا أخواها المساحة التى نجلس فيها أو الدقائق التى نمضيها معا. أصبحت تطلب منى أن أجلس معها قبل أن تنام، وأصبحت تطلب أن تنام كل ليلة فى ساعة أبكر قليلا من الليلة التى قبلها. فعلى عكس توقعاتى، هى لا تقاوم وقت النوم بل تطالب به قبل أن يحين فنقضى وقتا أطول فى غرفتها وحدنا. أصبحت الصغيرة أيضا أكثر جاهزية للاستحمام وصارت تطالب بأن تمضى وقتا أطول فى الماء وتتحجج بغسل شعرها من جديد أو بغسل دميتها أو أمور أخرى يبدو أنها تقررها بشكل تلقائى وسط الصابون.
***
لم أنتبه للتغيير فى تصرفاتها حتى انتبهت لتغيير فى تصرفاتى أنا. ربما لأنها الأصغر سنا والأخيرة، ربما لأنها بمثابة ختم الختام فى عملية الحمل والأمومة التى كثيرا ما يتم تعريف المرأة من خلالها، ربما لأننى أعى أنه حين تكبر آخر طفلة فأنا نفسى سوف أنتقل إلى مرحلة أخرى من حياتى، مرحلة لن أعود فيها إلى خانة «الأم الشابة»، وسوف أنتقل معها إلى خانة فيها والدتى وأمهات كثيرات فى سن أمى تعاملن من قبلى مع تراجع دورهن فى حياة أولادهن.
***
أجلس فى السرير قرب الصغيرة فى المساء وأنظر فى عينيها اللامعتين. هى لا تريد أن تنام لكنها تريد أن تستفرد بى، وأنا أنصاع لرغبتها التى هى رغبتى أيضا. تتمدد فوقى لمدة دقائق أعرف أنها تحتاج من خلالها لهذا التواصل كما أحتاجه أنا، فهو بمثابة تأكيد لى على أنها جزء منى وقد يكون تأكيد لها أننى ما زلت أحميها. ثم يبدأ جسدها الصغير بالتراخى فتتكور إلى جانبى دون أن تبتعد. أعدل من جلستى حتى أحتويها بأفضل شكل، بينما يصبح تنفسها أكثر بطء وأكثر عمقا. تنام الصغيرة لكننى لا أتحرك، وأنا أفكر فى إمكانية أن أحفظ هذه اللحظة. كيف أختصر تعريف السعادة فى وصفى لمشهد تنام فيه طفلة عمرها سنتان إلى جانب سيدة تريد أن يتوقف الزمن هنا، فى قمة السكينة والرضا، حيث يدق قلبى تماشيا مع إيقاع تنفس الصغيرة؟
***
هذه الصغيرة، كما أخويها من قبلها، أجبرتنى على إعادة تعريف بعض المسلمات، كأن أنتظر موعدى معها كما كنت أنتظر موعد لقائى بوالدها. أتطلع إلى الأوقات التى سوف نمضيها مع بعض، أشتاق إليها كما ما زلت أشتاق لوالدها حين يغيب. أتساءل عما إن كانت سوف تحبنى بعد سنوات حين تكبر، كما أتساءل عن قدرة والدها، أى زوجى، أن يتحملنى لسنوات قادمة كما يدعى حين نتحدث عما بنيناه خلال أحد عشر عاما من العيش المشترك.
***
أفهم الآن، وقد أكون قد تأخرت ببلورة الفكرة، أننى قطعا أحب أولادى الثلاثة لأشخاصهم ولأننى أمهم، لكن أساس حبى لهم هو حبى لوالدهم. أذكر أننى فى سنوات شبابى الأولى لم تكن مسألة الأمومة والأطفال تعنينى كمفهوم مطلق، بمعنى أن فكرة الأمومة لم تبد لى أنها أولوية. حتى أن صديقتى ذكرتنى منذ أيام بأننى قلت لها مرة فى حديث بعيد أننى غير مهتمة بإنجاب الأطفال إلى أن تعرفت على شخص شعرت أن حبى له لن يكتمل سوى بمشروع ملموس: أطفال يمثلون دليلا حيا على أن ما يربطنى به، ورغبة بأن أرى فعليا نتيجة ما يربطنا يستمر من بعدى.
هناك شىء نرجسى نوعا ما فى فكرة أننى أردت أن يلتحم جزء منى بجزء منه فيستمر من بعدنا على هيئة أطفال قررنا أن نأتى بهم إلى العالم. أنا نفسى كثيرا ما أتساءل عما دار فى بال بعض من أراهم ثقيلى الظل حين قرروا أن يتكاثروا! وقد يسأل بعض من يعرفوننى السؤال ذاته عنى ويتعوذون من إمكانية أن يستمر أى شىء يخصنى! لا يهم.
***
أحبه هذا الرجل الخجول الذى لا يحب أن تقع عليه بقعة الضوء لكنه يسلطها علىّ طول الوقت. أحبه ذلك الرجل المتصالح مع نقاط ضعفه فأتعلم منه أن أسامح نفسى على بعض علاتى. أحبه ذلك الرجل الجدى فى مواقفه والساخر من مواقف تفرضها الحياة فيأخذها بخفة من يشاهد مسرحية. أحبه ذلك الرجل الذى يلتمس العذر لمن أغضب منهم ويذكرنى بلائحة حسناتهم فأصمت. لا يجاملنى ويفند لى كل أخطائى لكن يترك لى مجالا للتراجع فلا يحشرنى فى الزاوية. هو ليس فى سباق معى لأنه جالس هناك بعد خط الوصول، مسترخ فى الشمس بينما ألهث أنا لمحاولة الوصول إليه فيبتسم وهو يقول إنه لا داع للتوتر فلكل منا سرعة وتقنية خاصة به. هو ليس فى سباق مع أحد فلماذا أحاول أنا أن أفرض مباراة ليست فى مكانها؟ أبطئ من خطواتى، أنظر إليه حيث يجلس، أفكر فى أن أطفالنا الثلاثة هم فى نظرى أولا أطفال الحب، هم رد الكون من حولى على سؤال لطالما دار بذهنى: هل أستحق أن يحبنى هذا الرجل؟