بعد أيام قليلة وفى نهاية هذا الشهر يكون قد مر على مؤتمر مدريد للسلام عقود ثلاثة من الزمن. المؤتمر الذى كان يفترض أن يطلق مسار التسوية السلمية الشاملة والعادلة والدائمة للقضية الفلسطينية. جاء المؤتمر الذى وجهت الدعوة إليه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى غداة تحولات هامة على الصعيدين الدولى والإقليمى: نهاية الحرب الباردة بتداعياتها الدولية وبداية النهاية للاتحاد السوفييتى وقيام «لحظة الأحادية» الأمريكية على الصعيد العالمى كما سماها الكاتب الأمريكى شارلز كروثمر.
على الصعيد الإقليمى جاء المؤتمر بعد حرب تحرير الكويت وما عبرت عنه وكذلك ما حملته من انعكاسات على المنطقة ككل. التحضير الأمريكى للمؤتمر أظهر حينذاك التزاما وانخراطا أمريكيا كبيرا بأهمية وأولوية التسوية الشاملة كمدخل أيضا لإقامة شرق أوسط جديد من خلال التركيز على مسار متعدد الأطراف (شمل خمس مجموعات عمل تناولت قضايا البيئة، الحد من التسلح والأمن الإقليمى، اللاجئون، المياه والتنمية الاقتصادية الإقليمية) إلى جانب المسارات الثنائية للمفاوضات. بالطبع كان الاهتمام الإسرائيلى مركزا على التطبيع عبر «بوابة» مفاوضات مجموعات العمل والاستمرار فى رفض السلام على أساس القرارات الدولية ذات الصلة، سياسة وضع العربة أمام الحصان، وبالتالى إسقاط المفاوضات الثنائية مع الأطراف العربية الأربع المعنية. وقد سقط أو أسقط مؤتمر مدريد خلال عام تقريبا لعدم توفر توازن القوى المطلوب ولا الإرادة الدولية الفاعلة لدفع إسرائيل لاحترام القرارات الدولية وتنفيذها بغية إقامة السلام المنشود. وللتذكير أيضا دخلت عملية السلام بعد ذلك فى المسار الفلسطينى وهو الأساسى فى دبلوماسية الحلول المرحلية والانتقالية وما يمكن وصفه بسياسة بناء الجسور إلى منتصف النهر.
ثم جاءت التطورات الإقليمية التى شهدت ازدياد الصراعات فى الشرق الأوسط وحول الشرق الأوسط. كما شهدت انتشار الحروب بأشكالها المختلفة والمتداخلة التى تغذى وتتغذى على بعضها البعض من حروب باردة إلى حروب أهلية إلى حروب بالوكالة أيا كانت العناوين التى تحملها تلك الحروب. ذلك كله إلى جانب ما أصاب الجسم السياسى الفلسطينى بهياكله وتنظيماته ومؤسساته من ضعف وترهل وتفكك، أدى إلى تهميش القضية الفلسطينية وإسقاطها من جدول الأولويات الإقليمية.
رغم ذلك هنالك بوادر لإعادة القضية الفلسطينية ولو بشكل تدرجى على جدول تلك الأولويات عبر دعوات وصيغ للعودة إلى محادثات تهيئ لمفاوضات أو لإحياء دور الرباعية الدولية. ويدعو البعض إلى توسيع الرباعية الدولية لضم دول أخرى قادرة أن تساهم فى إعادة إطلاق عملية السلام «فى الوقت المناسب». لكن فى حقيقة الأمر يبقى الجمود سيد الموقف فيما تنشط إسرائيل لنسف كل الأسس التى تسمح لاحقا بإقامة الدولة الفلسطينية المطلوبة وعاصمتها القدس الشرقية. تنشط إسرائيل دون أى رادع لزيادة الاستيطان والسيطرة على مصادر الحياة من مياه وأراضٍ زراعية فى الضفة الغربية وتهويد القدس والاعتداء على المقدسات الدينية. وقد حذر مجلس الإفتاء الأعلى فى فلسطين منذ أيام من مخاطر تلك السياسات التى قد تؤدى إلى تحويل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى إلى صراع دينى. العنوان الذى تحمله السياسات الإسرائيلية حاليا قوامه الأمن (لإسرائيل) مقابل تحسين الوضع الاقتصادى للفلسطينيين. عنوان يعكس سياسة تعزيز الوضع الاحتلالى القائم واستكمال الشروط الموضوعية لإسقاط حل الدولتين لمصلحة تعزيز نموذج الدولة الواحدة القائمة على التمييز العنصرى (نموذج النظام السابق فى جنوب أفريقيا).
ذلك كله لن يلغى الهوية الوطنية للشعب الفلسطينى. فالهويات الوطنية كما تعلمنا دروس التاريخ فى العالم لا يمكن أن تلغى. يمكن قمعها ولا يمكن إلغاؤها. ولكن ما قد يحصل فى ظل سيناريو من هذا النوع هو زيادة مستوى التوتر فى المنطقة وكذلك القابلية لاستخدام «الورقة الفلسطينية» فى صراعات المنطقة تحت مسميات وعناوين مختلفة. المطلوب أولا من «الجسم السياسى» الفلسطينى بجميع مكوناته أن يكون على مستوى التحدى المصيرى، وأن يعمل على بلورة استراتيجية وطنية فلسطينية صارت أكثر من ضرورية. المطلوب أيضا فى ظل ما نراه، ولو فى بداياته من محاولات لرأب الصدع فى كثير من النقاط الساخنة فى المنطقة، مبادرة عربية لإعادة إحياء مبادرة السلام العربية (مبادرة قمة بيروت) ووضع خطة عملية للتحرك على الصعيد الدولى بغية خدمة هذا الهدف. الأمر الذى يساهم أيضا فى حال نجاحه إلى جانب تحقيق الأهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطينى وإنهاء الاحتلال للأراضى اللبنانية والسورية، رغم العوائق الكثيرة فى إزالة أحد الروافد الأساسية للتوتر وللاستقرار فى المنطقة. تحد دونه الكثير من العوائق كما أشرنا ولكنه ليس من المستحيلات إذا ما توفرت الرؤية والإرادة وتوظيف الإمكانات المطلوبة لتحقيق ذلك.