هكذا، يموت رئيس سابق وتشتعل مواقع التواصل الاجتماعى بردود الأفعال. تنطلق التعازى وتواجهها النكات اللاذعة، يترحم البعض ويتأسف البعض الآخر على رحيله دون محاسبة. تعود إلى الذاكرة صور مناسبات مهنية واجتماعية وأسرية ربطتنى بمصر على مدى السنوات ومدار التطورات السياسية، المحلية منها والإقليمية والدولية.
***
لم تثر فى نفسى أنباء موت الرئيس المخلوع أى ردة فعل، لم أشعر أن رحيله أو بقاءه قد يعنى شيئا لعلاقتى بمصر، ولا أدعى أن شعورى سوف يقدم أو يأخر أى شىء فى النقاش المحتدم حول رحيله. تماما كما لم يثر عندى موت رؤساء دكتاتوريين سبقوه بالرحيل فى السنوات الأخيرة أى شعور. فالترسيخ للأنظمة الشمولية والممارسات القمعية وتعميم ثقافة الفساد كلها أعمق من بقاء أو رحيل شخص، والخلل المنهجى الذى أطبق على الأنظمة السياسية باق رغم رحيل من شرعنه.
***
كثيرا ما أتساءل عن جدوى ما حدث عام 2011 فى المنطقة العربية، وأشكك فى إن كان التغيير ممكنا فعلا، لا سيما حين أقارن بين ما قبل 2011 وما بعده من ناحية يومية وسطحية: هل كانت الحياة اليومية أسهل؟ حتى فى العراق الذى رحل فيه الدكتاتور قبل الثورات العربية: هل كان العراقيون أحسن حالا قبل أن تنفجر بلادهم فيهم بسبب التدخل الأمريكى وخلع دكتاتور دموى؟ هل كان السوريون بغنى عن آلة قتل وقمع لطالما كانت موجودة إنما توحشت بعد عام 2011؟ هل الليبيون راضون عن مسار بلدهم وهل يتحسر بعضهم ضمنيا كما أتساءل أنا أحيانا دون أن أعترف علنا أننى أتساءل؟
***
أظن أنه من الصعب على أن أتقبل أن أى تغيير هو عملية شديدة البطء، وأن مقاومة أى تغيير، وليس تبنيه، هى ردة الفعل الطبيعية. التغيير موحش ومخيف، التآلف مع أى شىء قد يكون الأسلم، أجيال تعلمت أن تتحاشى الصدام، ثقافات مجتمعية فهمت آلات القمع وتعلمت أن تتفاداها، لا ألوم أحدا فالبقاء على قيد الحياة أقوى غريزة، وتفادى آلية القمع قد يبدو أسلم موقف.
***
كم رئيس رحل فى السنوات العشرين الأخيرة، ممن حاول أن يقتنع ويقنع غيره بأنه خالد؟ أو ليس الخلود من صفات الآلهة؟ هل من إهانة للفرد أكبر من أن يدعى أحدهم، أى كان، أن مكانته فوق مكانة باقى البشر؟ ألم يحن وقت أن نسأل بأى حق يعتبر أحدهم أنه وصى وولى على شعب دون الحاجة إلى التغيير؟
***
توقفت عن الدخول فى كثير من النقاشات فى السنتين الأخيرتين عن جدوى ما حصل فى 2011، فأنا لا أرى منفعة فى جدال أقارن من خلاله حياتى قبل وبعد الثورات، أو أدلو فيه بدلوى حول موضوع «عدم الاستقرار» الذى أحدثه خروج الشعوب إلى الشوارع. فعلا؟ ما هز الاستقرار هو خروج الشعوب إلى الشوارع؟ أرى مناصرى هذه النظرية ينتشون ويكثرون من الشماتة أمام مظاهرات الستر الصفراء فى فرنسا مثلا، محاولين دون أدنى تشكيك أن يقارنوا بين استخدام الشرطة الفرنسية للعنف واستخدام الشرطة العربية للعنف، حتى يصلوا إلى نتيجة أن الدول الديمقراطية هى أكثر شبها للدول القمعية مما نعتقد، نحن بسطاء العقل ممن صدقوا أن التغيير ممكنا.
***
لا أناقش أن ما يهمنى أنا فى موضوع الستر الصفراء هو تعاطى الإعلام والنقابات ومنظمات المجتمع المدنى المحلية والدولية معها، ما يهمنى هو إمكانية محاسبة الشرطى أو عنصر الأمن إذا ظهر أنه استخدم عنفا فى مواجهة المتظاهرين لا يسمح به القانون. ما يهمنى هو الصور التى تتصدر الصحف والتى تظهر عنف رجل الشرطة ومن ثم مظاهرة حول الموضوع تحديدا وتصعيد قد يودى بمنصب مسئول فى الدولة إن تم إثبات عدم التزام شخص تحته بالقوانين.
***
لا أناقش أيضا إسراع من يملك رفاهية أن يعيش فى الغرب بالذهاب بأسرته إلى دول ديمقراطية: لماذا هذا الإسراع؟ أليس هناك رابط بين سلامة الفرد كما ينص عليها القانون وبين مجتمع صحى لا يخاف أفراده من آلة القمع؟ إن كانت الدول الديمقراطية والغرب عموما بهذا السوء، لماذا التدافع من أجل الحصول على إقامة دائمة فيه؟
***
طبعا الحنين إلى إفطار رمضان ولمة العائلة وإلى قصص الجدة ودفء العلاقات موضوع لا ينتهى حين نناقش الفرق بين أن نعيش هنا أم هناك. فترى قطاعات ممن عاشوا فى الغرب يعودون إلى القاهرة أو بيروت ليقولوا إنهم لم يعودوا يحتملون الغربة، لكنهم يعودون بجوازات سفر أجنبية تضمن لهم حقوقا مدى الحياة، ويتوجهون إلى سفاراتها كل أربع أو ست سنوات لممارسة حقهم الديمقراطى بالاقتراع.
***
لا شعور لدى تجاه موت رئيس رسخ للقمع، لكن لدى شعور عميق بالحزن على أثر القمع طويل الأمد على ثقافة المجتمعات، ومع كل خبر عن موت اسم كان ترتعد له الأطراف أحزن لسهولة القمع وصعوبة الحرية، لا سيما حين أضطر أن أنظر من حولى إلى دول ما بعد الدكتاتوريات وأرى أن مسار معظمها متعثر وملىء بالدم، فيصعب على أن أجاوب من يسألنى بتهكم «هل ما زلت تؤيدين الثورات رغم ما أتت به؟» وترانى أرد «أما زلت تؤيد القمع رغم ما أرساه من ضرر فى رأسك؟».