لم يكن يفكر يوما فى السفر للعراق ولكن الأقدار ساقته لذلك، فقد كان شقيقه الأصغر عماد يعمل مهندسا بالعراق وتزوج كردية وأقام معها فى الموصل وعرف حاجة الشركة لمهندس زراعى تخصصه اقتصاد فقال لهم: أخى مختص بذلك فوافقوا، ذهب إلى العراق والعلاقات بين النظامين السياسيين المصرى والعراقى فى أسوأ حال بعد معاهدة كامب ديفيد ومؤتمر بغداد الشهير والمظاهرات العديدة ضد الاتفاقية فى العالم العربى والهجوم على مكتب مصر للطيران فى بغداد ووقف رحلاتها من القاهرة لبغداد وبالعكس.
كان صاحبنا مؤمنا وقتها بأن إسرائيل هى العدو التاريخى وأن السادات أخطأ خطأ تاريخيا بذلك ورغم ذلك سافر للعراق، مستجيرا من الرمضاء بالنار، وصل إلى مطار بغداد الذى أصبح فيما بعد مطار صدام، فوجئ باستقباله فى المطار بالحلوى والعصائر، علم بعدها أن هذا اليوم هو عيد تأسيس حزب البعث العراقى، فى كل الشوارع زينة وورود وأغانى حماسية وكلمات تهنئ المهيب الركن حسن البكر ورفيقه المناضل الفريق الركن صدام حسين وكلاهما حصل على هذه الرتب الرفيعة رغم أنهما لم يتخرجا من أى كلية عسكرية.
أبدى لشقيقه دهشته من هذا المشهد فرد عليه «اسكت أنت مش فى مصر» كان يذهب يوميا للمكتبة العامة بالموصل، ذهب يوما إلى متحف الآثار الآشورية بالمدينة فقوبل بالدهشة لأنه أول مصرى يزور المتحف رغم كثرة المصريين هناك.
كتب نقدا لقصة منشورة فى جريدة الجمهورية العراقية أرسله لمقر الجريدة فوجئ بالنقد ينشر بعد أيام قارن ذلك بمعاناته فى مصر فى هذا الشأن، تعرف على الفلسطينى رئيس القسم الأدبى فى الجريدة، بعدها نشر عددا من قصصه فيها، كمت راسل عدة مجلات عراقية وكتب فيها.
استقر فى أربيل كان فيها حكم ذاتى، وهى مدينة صغيرة تطير الأخبار فيها سريعا، سكن فى شقة يستأجرها مهندس صعيدى نذرت أسرة صاحب المنزل محسن القصاب الكردية أن تطعم كل من في الشقة على نفقتها باستمرار، مشاعر نبيلة، كانت ترسل ابنها «فخر الدين كل يوم بالطعام يضعه فى المطبخ».
بعد ثلاثة شهور من حضوره للعراق انقلب صدام على رفيقه البكر وسجنه وصدرت أحكام بالإعدام على 48 قياديا بعثيا حاولوا إقصاء صدام عن السلطة لتهوره، هرب معظمهم ونفذ الحكم بالباقين، وطبقا لتقاليدهم البالية فإن الرفاق هم من ينفذون الإعدام.
صدام كان يحب المصريين وله مقولته المشهورة «أى تجاوز عليهم هو تجاوز على شخصيا» هذه الكلمات رفعت شأن المصريين فى العراق وجعلتهم يتوافدون بالملايين إليها وينالون الحظوة التى لن تتكرر بعده «الآن العراق ليس فيها عمل لمصرى ولا لغيره».
اندلعت الحرب العراقية الإيرانية وهى أطول حرب بين بلدين إذ استمرت ثمانى سنوات وأكلت الأخضر واليابس فى البلدين، مشكلة السيادة على شط العرب كانت سببا رئيسيا فى اندلاع الحرب، وقد رسمت الحدود العراقية الإيرانية بموجب ميثاق سعد إياد سنة 1937 ويقضى بوقوع الخط الحدودى الفاصل بين الدولتين شرق شط العرب أى يقع ضمن السيادة العراقية بالكامل.
حاول شاه إيران تعديل الخط الحدودى ليقتسم السيادة على الشط مع العراق دون جدوى، فدعم الأكراد والمتمردين وأقام لهم معسكرات داخل إيران وأمدهم بالسلاح والمال لشن عمليات عسكرية داخل العراق.
والغريب أن إيران دعمت أكراد العراق للاستقلال ومنعت أكراد إيران من ذلك، إنه ازدواج المعايير المقيت فى السياسة «فعلت ذلك إيران الخومينى حينما دعمت الأكراد ضد صدام، فلما آل حكم العراق إليها فعلت العكس وضربت أكراد العراق وإيران ضربات قاصمة».
عندما وصل البعث إلى سدة الحكم حاول صد هجمات الأكراد دون جدوى فلم يجد بدا من الرضوخ لمطالب إيران واقتسم السيادة على شط العربى معها وفق معاهدة الجزائر التى وقعها صدام نفسه.
فلما قامت ثورة الخومينى رافعة شعارات «تصدير الثورة ونصرة المستضعفين» شجعت شيعة وأكراد العراق على الثورة، فقامت انتفاضة شيعية فى الكاظمية، وحاول الشيعة اغتيال طارق عزيز وشجعوا الأكراد على الثورة فألغى صدام اتفاقية الجزائر التى وقعها بنفسه، واستأثر بشط العرب كله فقامت أسوأ الحروب بلا معنى ولا هدف ولا فائدة وصبت فى مصلحة إسرائيل والغرب.
من تقاليد أكراد أربيل ألا يسكن الأعزب فى المناطق السكنية للأسر، فأحضر زوجته وأولاده وسكن فى مجمع سكنى خاص بالأسر.
عين صدام ابن عمه على حسن المجيد حاكما للمنطقة الشمالية وأقسم بشوارب صدام وهو قسم لو تعلمون عظيم أنه خلال عام سيتجول الرئيس دون حراسة فى المنطقة الحدودية حتى الحدود الإيرانية والتركية.
وفى عام 1987 تعرض وادى باليسان الواقع بمحافظة أربيل لهجوم بالأسلحة الكيماوية لأول مرة قتل فيه «103» وأصيب 346 نقلوا إلى مستشفى أربيل المركزى ومنه إلى السجن، وبعدها بدأ الفلاحون يبيعون أغنامهم بثمن بخس فلا طعام للأغنام ولا مأوى لأصحابها، ومنع وصول الغذاء إلى هذه القرى المحظورة المتمردة.
قدمت زوجته كأمينة مكتبة أربيل صورة جيدة عن المرأة المصرية غير التى ترسخت فى آذانهم عبر الافلام والمسلسلات المصرية التى تصورها سكيرة ولعوب وراقصة.
كانت الحكومة تلزم أئمة المساجد «ملالى» بالدعاء لصدام حسين فى الوقت الذى دعت فيه الحركة الكردية لقتل كل إمام يدعو لصدام، فوقعوا بين شقى الرحى، بعضهم قتل وبعضهم امتنع ففصل.
طلبوا من مؤسسة إرسال عشرة منتسبين، كان صاحبنا منهم، كان حظه العاثر أنها حفلة إعدام للهاربين من الحرب العراقية الإيرانية، أوقفوا 15 شخصا تم جرجرتهم على الأرض أوقفوا وقيدوا بصعوبة، كان بعضهم من أربيل، انطلقت الرصاصات لأجسادهم هتف الرفيق مصفقا «يحيا العدل عاش الرفيق البطل صدام» وردد الجميع الهتاف رعبا وخوفا، بعد إعدام مجموعات منهم اتصل صدام وعفا عن الباقين، تمثيلية مكررة بين الحين والآخر، ما زالت هذه الواقعة تعتمل فى عقله حتى اليوم.
يمكنك أن تستخرج من طيات مذكراته حقيقة مرة مفادها: أن الأكراد استخدمهم الآخرون ثم غدروا بهم, فإيران الشاه استخدمتهم ضد البكر وصدام العراق، ثم غدرت بهم، وإيران الخومينى استخدمتهم لإسقاط صدام ووعدتهم بالاستقلال زورا ثم غدرت بهم بعد أن تمكنت مع أتباعها من العراق كله واستخدمتهم تركيا ثم غدرت بهم وأمريكا غدرت بهم مرارا.
الأكراد رغم أنهم من أذكى الشعوب لكن استخدمهم الجميع لتحقيق أغراضهم حتى إذا حققوها ألقوا بالأكراد مرة أخرى إلى الجحيم، الأكراد ورقة يريد الجميع أن يلعب بها ثم يلقيها متى شاء، لم يتعلم الأكراد أنه لم يصبح لهم كيان حقيقى محترم إلا عندما ذابوا فى أمتهم وأخرجوا أمثال صلاح الدين الأيوبى وسادوا العرب جميعا.
سمى صدام عملياته ضد الأكراد العراقيين «الأنفال» وتم فيها تدمير وحرق وسلب مئات القرى الكردية وطمر كل عيون الآبار وذلك لإعادة الأمن إلى هذه المنطقة المتمردة.
ويذكر أ.رجائى أن طالبا كرديا أعطى صورة صدام ليرفعها فى إحدى المناسبات القومية فألقاها على الأرض فإذا بالرصاص ينطلق من أحد الأشاوس لترديه قتيلا على الفور.
وحول زيارات صدام للأسر فى البيوت واستطلاع أحوالهم، شهد أ.رجائى وهو من يكره صدام بأن هذه الزيارات كانت حقيقية ومفاجئة ولم تكن تمثيلية وأن صدام كان يدخل مطبخ الأسرة ويتذوق الطعام بنفسه.
بذل صاحبنا جهدا كبيرا ليدرس اللغة الكردية فى آداب عين شمس ونجح فى ذلك بعد محاولات مضنية بالاتفاق بين جامعتى عين شمس وصلاح الدين فى أربيل، كما ساهم بقدر كبير فى تأسيس جمعية الصداقة المصرية الكردية، كما رتب زيارات كردية للأزهر والكنيسة معا.
ودعت كردستان العراق شيخ الأزهر لزيارتها فأوفد الشيخ محمود عاشور الذى استقبل بحفاوة كبيرة وعلى إثر ذلك أقيم معهد أزهرى فى أربيل مع منح مجانية للأزهر للعشرة الأوائل فى الإقليم.
ورغم عدم حصول أ.رجائى على الدكتوراه إلا أن غزارة علمه وتبحره فى الشأن الكردى رشحه لكى يشرف على 15 رسالة أكاديمية فى العلوم السياسية «ماجستير ودكتوراه» لطلاب من العراق وفلسطين والمغرب عن الشأن الكردى كما شارك فى مناقشة الكثير من رسائل أخرى.
هل استطاعت إيران استقطاب بعض الأكراد أثناء حربها مع صدام؟؟ نعم وبكل تأكيد، فبعض قادة الأحزاب الكردية وخاصة اليسارية كانوا يضعون صور الخومينى فى مكاتبهم.
هل انتقل بعضهم من اليسار إلى التشيع نعم، ولكن لم تستطع إيران اقتلاع الفكر السنى الوسطى، فالأكراد تأثروا فترة بالفكر اليسارى ثم انتقل بعضهم إلى التشيع والآن يميل أكثر قادتهم إلى الفكر الديمقراطى الليبرالى ويرحبون بالدولة الديمقراطية وليست القومية التى تنصر قوما على قوم وهذا آخر ما وصل إليه أهم زعمائهم عبدالله أوجلان الذى ينشر مراجعاته باستمرار من سجنه بتركيا.
زار صدام إحدى المدارس الثانوية ودخل «وهو الديكتاتور الشهير» فى درس أخلاقى طويل فى أحد الفصول وتحدث عن القدوة التى يجب الاقتداء بها فى كل مكان وذكر صفاتها، وطلب من الطلاب اختيار قدوة لهم فوقع اختيارهم على أحدهم وسبب الاختيار«وكان بالطبع» أنه بدرجة نصير متقدم فى الحزب القائد، ولما أذيع هذا المشهد فى التلفزيون أصبح تكليفا ذاتيا لاختيار الطالب القدوة على مستوى الفصل والمدرسة.
«درجات العضوية فى حزب البعث من الأدنى للأعلى مؤيد، ونصير، ونصير متقدم، عضو متدرب، عضو، عضو فرقة، عضو شعبه، عضو فرع، عضو قطرية، أمين سر قيادة قطرية وهو صدام نفسه».
والغريب أن صدام لم يدرس فى أى كلية عسكرية وأعطى نفسه رتبة المهيب الركن «أى المارشال» فى حين أن هذه الدرجة فى الغرب لا تمنح إلا للقادة العسكريين الذين انتصروا فى عدة معارك كبرى (وهذا يذكرنا بكلمة مونتجمرى عندما طلب عامر مقابلته: فاستغرب رتبته ماريشال «مشير» قائلا: كم حربا كبرى خاضها؟ قالوا: ولا حرب، قال كيف حصل على هذه الرتبة ففى تاريخ بريطانيا كله ستة مارشالات فقط).
تاريخ الدول العربية الحديثة طويل وعجيب وغريب، وفيه من المآسى والأحزان أكثر من الأفراح، شكرا للأستاذ. رجائى فايد على المتعة الكبيرة التى ساقها إلينا ومعها الآلام الشديدة على أوضاع أمتنا.