أسعدتنى الظروف أن أتاحت لى الفرصة لزيارة إحدى المدارس المصرية ــ اليابانية والالتقاء بقياداتها وعدد من المدرسين والتلاميذ بها، وهى مدرسة من ضمن حوالى 48 مدرسة أخرى جاء إنشاؤها فى إطار الشراكة المصرية ــ اليابانية فى مجال التعليم، وتعمل هذه المدارس وفق نظام توكاتسو اليابانى، الهادف إلى تهيئة بيئة تعليمية لتنمية المهارات والقدرات لتحقيق النمو المتوازن للطالب من النواحى الاجتماعية والنفسية والتعليمية، وغرز قيم التعاون وقبول الاختلاف والقيادة والعمل الجماعى.
أعترف أن زيارة لمدرسة واحدة ليست كافية للحكم على التجربة، وأن تقييم سياسة أو نظام إدارى يحتاج إلى وضع خطة لجمع المادة العلمية بشكل منتظم، وفى حالة تقييم المدارس، نجد أمامنا عدة أوجه للتقييم، منها على سبيل المثال مدى تحسن أداء الطلاب فى الامتحانات، والمهارات التى اكتسبوها (مثل القدرة على العمل الجماعى)، ورضاء أولياء الأمور وقدرة المدرسة على إشراكهم فى العملية التعليمية... إلخ.
والواقع أن تجربة المدارس المصرية ــ اليابانية ذاتها حديثة نسبيا، حيث إن أكبر دفعات المدارس اليابانية يدرسون حاليا فى الصف الرابع (الابتدائى)، ولم يدخل تلاميذ المدارس اليابانية بعد اختبارات دولية للقدرات، مثل اختبار الاتجاهات الدولية فى دراسة الرياضيات والعلوم، والمعروف اختصارا باختبار TIMMS، ولم يتسن لى استطلاع آراء أولياء الأمور عن العملية، وإن كنت أتمنى أن تكون لدى وزارة التعليم آليات لجمع المعلومات المطلوبة لتقييم التجربة التى قاربت على خمسة أعوام، وهى فترة كافية لتقديم تقرير متكامل عن التجربة.
كما أن للتقييم عدة جوانب تستحق جميعها الدراسة، فمن ناحية الإدارة، تمثل المدارس اليابانية التجربة الأولى بين المدارس الحكومية المصرية فى إسناد الشئون المالية والإدارية إلى شركة خاصة، بحيث تتفرغ الإدارة المدرسية للعملية التعليمية، التى تنظمها وزارة التعليم ويتم التدريس وفق منهج الوزارة واستراتيجية التعليم 2.0 التى أعلنتها الوزارة منذ عام 2017، وبهذا يصبح طلبة المدارس اليابانية الجيل الأول المتعلم وفق الاستراتيجية الجديدة لإصلاح التعليم منذ بداية دخولهم إلى الحياة المدرسية.
والواقع أن إسناد الشئون المالية والإدارية، بل والتعليمية كذلك، إلى القطاع الخاص، يعد أمرا مألوفا فى عدد من المدارس الدولية بمصر، ولكن تجربة المدارس اليابانية هى الأولى لمدارس حكومية فى هذا المجال.
• • •
من أوجه التقييم الأخرى هو جودة المبانى، التى تعد محورية لتطبيق نظام توكاتسو، حيث تقوم المدارس اليابانية على بناء مجتمعات مدرسية communities تسمح للطلاب بالقيام بأنشطة مشتركة وتنمية روح القيادة والتعاون والإبداع، وهو ما يتطلب تهيئة تصميم المدرسة بما يتيح مساحات مناسبة للقيام بهذه الأنشطة.
وفى هذا المجال، لفت انتباهى المساحة الكبيرة للمدرسة مقارنة بغيرها من المدارس الحكومية، بل والخاصة، والفصول المصممة فى شكل يسمح بالتفاعل المباشر بين الطلاب والمدرس، وأعداد الطلاب التى لا تتجاوز العشرين طالبا فى الفصل الواحد، وهى كلها أمور تقترب بهذه المدرسة، من حيث التصميم والتفاعل بين الطلاب والمدرس، إلى ما يمكن أن تتوقع مشاهدته فى المدارس الدولية، ورغم إعجابى بالتصميم والمساحة، إلا أن خبرتى لم تسمح لى بالحكم على جودة المبانى من الناحية الإنشائية، وهو عنصر لابد أن يتم إدراجه ضمن بنود عملية تقييم تجربة المدارس المصرية ــ اليابانية.
وفيما يتعلق بالعملية التعليمية، أقر أننى سررت بما شاهدت، أول ما لفت انتباهى هو إيمان القيادات المدرسية بالتجربة، وبجوهر نظام توكاتسو التعليمى، وهو ما يؤكد ضرورة إيلاء أهمية قصوى لاختيار القيادات المدرسية، التى جاءت فى حالة هذه المدرسة من مدارس خاصة ودولية، وتأهيلهم بالتدريب المناسب والرقابة المستمرة على أدائهم، مع أهمية التحرر من القيود البيروقراطية الكلاسيكية بما يسمح بإعفاء غير المؤهلين أو رافضى التغيير من مناصبهم.
وينعكس إيمان القيادة بمبادئ نظام توكاتسو على المدرسين والعملية التعليمية. أسعدنى مثلا مشاهدة تلاميذ مرحلة رياض الأطفال يقسمون أنفسهم إلى مجموعات، تقوم واحدة منها بكنس الفصل، وأخرى بمسح الكراسى والطاولات، وأخرى بترتيب الحقائب، وهكذا فى عمل جماعى جاد.
وأسعدنى مشاهدة مباراة كرة قدم قام بعدها مدرس الرياضة والخبيرة اليابانية بالمدرسة بتسليم الكأس لكلا الفريقين، الفائز والخاسر، لأن معيار الفوز هو المشاركة واللعب بروح رياضية، وليس عدد الأهداف.
كما لفت نظرى أسلوب التدريب بين الأقران peerــtoــpeer leaning بين المدرسين، حيث يتفق المدرسون على اختيار كل مدرس لحصة معينة يتميز فيها زميله لحضورها والتعلم من أداء هذا الزميل وأسلوبه التعليمى، وهكذا بالتبادل، ثم يقوم كل مدرس بتقديم ملاحظات إلى زملائه فيما يتعلق بنقاط القوة والضعف.
وكما نعرف أنه لا يوجد نظام تعليمى أفضل من المدرسين الموجودين به، يجب إضافة أنه ليس بالإمكان وجود نظام تعليمى أفضل من أولياء الأمور، الذين يجب إشراكهم فى العملية التعليمية، لذا سعدت بجدية إدارة المدرسة فيما يتعلق بالتواصل المستمر مع أولياء الأمور، وهو دور لا يمكن أن يتحقق إلا بمدير ومدرس مؤهل تعليميا وتربويا.
• • •
جددت هذه الزيارة فى ذهنى ما أكدته عديد من الدراسات الأكاديمية حول محورية المدرسة فى أية عملية إصلاحية فى مجال التعليم، فالمدرسة تقوم بأدوار محورية فى حياة الطلاب ليس فقط من الناحية التعليمية، ولكن من النواحى الاجتماعية والنفسية كذلك، ولا يمكن الاستغناء عن هذه الأدوار باستخدام الأدوات التكنولوجية فى التعليم، على أهميتها فى تهيئة أجيال قادرة على التعامل بلغة العصر وسوق العمل التى تنتظرهم.
كما أن المدارس التى يمكن أن تقوم بدورها فى خطة الإصلاح الطموح التى تبنتها وزارة التعليم تحتاج إلى استثمارات ضخمة، وأجد أن المدارس اليابانية من المدارس الحكومية المؤهلة للقيام بهذا الدور من خلال تهيئة بيئة مناسبة للتعلم، ولكن هل غيرها من المدارس الحكومية مؤهلة لهذا الغرض؟ وهل يمكن تحقيق الأهداف الطموح لاستراتيجية إصلاح التعليم بالإمكانيات الحالية؟
هذه ليست دعوة للتشاؤم، ولكنها دعوة لرفع كفاءة المدارس القائمة للقيام بواجباتها التعليمية والنفسية والاجتماعية فى حياة الطلاب، وتوجيه الاستثمارات اللازمة لهذا الغرض، وعلى رأسها الاستثمار فى البشر، بتخريج معلمين مؤهلين من كليات التربية، التى يؤسفنى أنها لا تزال بمعزل عن التطورات التى يهدف إليها إصلاح التعليم، ولهذا القول مقال آخر.
لذا أجد أن إضافة مكون المدارس المصرية ــ اليابانية إلى محاور التعاون بين مؤسسة حياة كريمة ووزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى توجه إيجابي، وذلك من خلال الاتفاق على تطوير عدد من المدارس التى تعمل عليها المبادرة الرئاسية، والعمل على تأهيلها لكى تتمكن من تفعيل عدد من مكونات أسلوب توكاتسو بقدر ما تسمح به إمكانيات التطوير التصميمى والهندسى للمدارس.
ختاما، يجب أن يضع إصلاح التعليم قضايا الاستدامة المالية وكفاءة البنية التحتية واستمرار المتابعة والرقابة ضمن أولويات العمل، مع تأكيد أن إصلاح التعليم منظومة شاملة تبدأ من المنزل والمعلم والإدارة المدرسية المؤهلة والمؤمنة بالتغيير، وتعتمد هذه العملية على عدد من المدخلات التى لا تصح دونها، يأتى على رأسها التمويل ووجود معلمين أكفاء ومؤهلين، مع تضافر مؤسسات الدولة الحكومية والأهلية لدفع وضمان استمرارية الإصلاح.