رحلة الحج هى أعظم رحلة إيمانية فى حياة المسلم.. وللحج معان كثيرة كنت أتحدث فيها عندما كنت شابا.. ولكن هناك فكرة توقفت عندها بعد أن بلغت سن النضج والتأمل العميق وانفتاحى على الثقافات المتعددة.
ومن أهم ما استوقفنى فى رحلة الحج أنها درس عميق وعظيم فى السلام بكل مضامينه.. فالربعاوى هناك إلى جوار السيساوى.. والشيعى يحج مع السنى.. والوهابى مع الصوفى.. وثورى وفلولى.. وسنة العراق الذين يمقتون الحشد الشعبى الشيعى مع رجالات من الحشد الشعبى نفسه.. والإيرانى إلى جوار السعودى رغم صراعات السياسة بين دولتيهما.. والمصرى إلى جوار القطرى والتركى.. وأتباع الحوثى وصالح مع خصومهم اليمنيين والسعوديين والخليجيين.. وأنصار حزب الله اللبنانى مع أنصار حزب المستقبل وأتباع الحريرى.
ولعلك تعجب كيف صهر الحج هؤلاء جميعا.. كيف عاشوا سويا فى سلام ودون حرب أو صدام وبلا قوات عازلة أو قوة قاهرة.
إنها فكرة السلام التى يريد الحج أن يرسخها.. إنه يرفض فكرة التمايز العرقى أو المذهبى أو السياسى أو الفكرى ويرسخ فكرة المساواة الإنسانية والتعايش المشترك «والنفع العام المشترك».. ومن أراد أن يبقى فى الأرض أكثر من غيره فلينفع الناس أكثر وأكثر «وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ».
يريد الحج أن يخرج بالناس من ضيق المذهبية والعرقية والمواقف السياسية والتعصبات للزعماء الدنيويين إلى رحابة «عبودية الله المشتركة» و«سعة الإنسانية المشتركة» وعمومية الإسلام الغض الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا يعرف السنة ولا الشيعة ولا الصوفية ولا الوهابية ولا التحيزات السياسية.
هناك يخلع الناس مذاهبهم ورتبهم وتحيزاتهم السياسية وتعصبهم المقيت لزعيم أو قائد.. حيث الجميع عباد الله لا تعرف هناك «اللواء من الجندى».. ولا«الغنى من الفقير».. ولا«الأمير من الحقير».. ولا«البيه من البواب».. هناك شىء واحد فقط يتوجه إليه الجميع هو «الله»
وقد جاء الحجاج الإيرانيون المؤدلجون بعد ثورة الإمام الخومينى وكانوا مشحونين بشعارات الثورة وأهدافها وبالتعصب اللا محدود للخومينى وتظاهروا فى الحج مظاهرات صاخبة وهم يهتفون «الله أكبر.. خومينى رهبر» أى زعيم باللغة الفارسية.. وبشعارات تهتف بسقوط أمريكا.
وأنا أعتبر أن هذا كان خطأ استراتيجيا من الخومينى ومساعديه لأنه سيحول الحج إلى أماكن للصراع السياسى والمذهبى.. وبهذا سيفقده أعظم ميزاته وهى اختفاء العرقية والمذهبية والصراعات السياسية والفكرية وسيضيع فكرة السلام بين الجميع التى يرسخها الحج.
لقد نسى هؤلاء أن هذه الأماكن هى لتوحيد الله فقط.. وعبوديته فحسب واللجوء إليه وذكره دون سواه.
هناك فى الحج لا رتب ولا نياشين ولا زعماء ولا قادة ولا فخر بأحد ولا مصارعة لأحد ولا نزال لأحد.. هناك يجب أن تختفى «فكرة المفاصلة» التى نادى بها الشيخ سيد قطب وهى فكرة أضرت بالحركة الإسلامية كثيرا وعزلتها عن كثير من الناس.
هناك تختلط وتتساوى كل الألوان.. هناك لا يوجد إلا الإسلام الأول.. لا هتاف لحاكم أو زعيم أو مذهب.
ترى لو نظم أنصار د. مرسى هناك مظاهرة أو مؤتمرا فلابد أن يرد عليها أنصار 30 يونيه.. ولو نظم حزب الله اللبنانى مؤتمرا فسيرد عليه أنصار الحريرى بآخر.. فتنتقل مشاكل الأوطان إلى أطهر موطن وأطهر شعيرة.. تلك الشعيرة التى لم تتلوث حتى اليوم بالأغراض السياسية.
نريد أن يبقى الحج للإسلام عامة وللإسلام فحسب.. وللسلام للجميع.. وليس لطائفة دون أخرى.
رحلة الحج تجمع ولا تفرق.. تجعل الناس تتواضع ولا تتكبر.. إنها تنقل الناس من «ضيق المذهبية والعرقية» إلى «رحابة الإنسانية الجامعة.. والإسلام الجامع».
أما المذهبية العرقية والعصبية السياسية فهى آفاق مغلقة وهى عادة لا تسع لا أصحابها.. أما الإنسانية بمعناها الشامل والإسلام بمقاصده العليا فهى آفاق مفتوحة تسع البشر جميعا.. وترحمهم جميعا وتسعدهم.. هى تسع السنى والشيعى.. والسيساوى والربعاوى.. والصوفى والوهابى.. والمالكى والحنفى..الكردى والتركى.. وأحباب 25 يناير وأنصار 30 يونيه.. والاشتراكى والليبرالى.. وهى تجعل كل هؤلاء يخدم بعضهم ويسع بعضهم بعضا.
إن رحلة الحج تنقل المسلمين من ضيق التعصب لمذاهبهم وأفكارهم وأيديولوجياتهم إلى سعة الإسلام والإنسانية الرحبة.
ولذلك لا ينبغى أن تكون هناك فى بقاع الحج مذاهب أو تعصبات عرقية أو سياسية.. ويكون الحرمان الشريفان دائما كما عهدناهما على الإسلام الأول.. «إسلام الوجه لله وحده».. وهذا ما أراه حقا فى الحرمين الشريفين فلا دعوة لأحد ولا صور لحاكم.. ولا من َّعلى الحجاج مع كل خدمه تقدم إليهم .
لقد رأيت مذيعة فى إحدى القنوات توزع بعض الملابس البسيطة على بعض اللاجئين السوريين المعدومين وتصورهم وهم يتقافزون ويتشاكسون ويشتبكون للحصول على بعض الملابس وهى تكرر الصور وتفخر أن مصر ليس فيها ذلك.. ناسية أنها لو ذهبت إلى أى قرية فقيرة فى الصعيد يمكن أن يحدث ذلك.. وأنه كان ينبغى عليها أن تستر عورات هؤلاء وضعفهم وحاجتهم وعوزهم.. لا أن تفضحهم وتمن عليهم بملابس قد لا يوازى ثمنها عدة آلاف.. فألمانيا وهى دولة لا دين لها خصصت 6 مليار دولار للاجئين السوريين دون أن تمن عليهم أو تذلهم بذلك.. المن بالعطية وتشويه صورة شعب كان من أجمل الشعوب وأغناها ليس من شيم الكرام.