لا يترك أغلب الإعلاميين المؤيدين للسلطة مناسبة إلا ويكررون عبارات من نوعية (ما نفعله هو مساندة للدولة المصرية وحماية لها من السقوط والانهيار، نحن ندعم الجيش والشرطة ونقف فى ظهرهم من أجل مصر، نحن لا نهاجم أحد إلا لصالح الوطن!!... إلخ)..
وسط الدماء التى سالت لجنودنا فى مجزرة الواحات ظهرت تسجيلات مجهولة المصدر قام بعض هؤلاء بإذاعتها على الهواء مباشرة ولم تكن تحمل سوى رسائل إحباط وكسر للروح المعنوية لعموم المصريين حول ما جرى من غدر وإراقة للدماء فى الواحات، وعندما استنكر البعض ذلك، طنطن هؤلاء بأن هذا الفعل جاء لمساندة الدولة، أى منطق يقرر ذلك؟ وأى عقل يصدق غير ذلك حيث إن الأمر لا يتعدى كونه تجارة رخيصة بدماء الشهداء وطمعا فى نسب مشاهدات تجلب مزيدا من أموال الإعلانات! فأى مساندة للدولة فى ذلك؟
أيضا ما جرى فى موقعة ترشيح السيدة مشيرة خطاب لليونسكو وما حدث من بؤس وتدنٍّ فى إدارة المعركة إعلاميا يجب التوقف معه كثيرا، دراسة الحالة الإعلامية المصرية فى قضية الترشح لليونسكو تعكس انحدارا غير مسبوق فى الإعلام المصرى الذى كان معروفا قبل ذلك بأنه يمتلك الحد الأدنى من الحكمة والتأنى وعدم الانجرار للمهاترات وعدم التورط فى معارك سفيهة تستخدم فيها أساليب رخيصة لا تليق بكون مصر الشقيقة الكبرى لكل العرب مهما بدر من أى دولة أخرى من إساءات.
انشغل الإعلام فى مصر بالهجوم على المرشح القطرى فقط ولم يعمل على إبراز فائدة تولى مصر لهذا المنصب بما تملكه من حضارة وتاريخ ثقافى ممتد ولم يركز حتى على قيمة المرشحة المصرية وخبراتها والدور الذى يمكن أن تلعبه إذا نجحت، كان الشتم والسباب والتخوين والاتهامات هى اللغة التى اعتمدت عليها الحملة ووصل الحال لدعم المرشحة الفرنسية والثناء عليها إعلاميا ورسميا على الرغم من أن تاريخها لا يبشر بالخير تجاه القضايا العربية، وكان من أروع ما كتب حول اندفاعنا فى هذه القضية ما كتبه الدكتور على الحفناوى.
لم أجد لدى أى مصرى تحليلا موضوعيا عن المرشحة الفرنسية، بل ذهب وزير خارجيتنا إلى الاتفاق مع وزارة خارجية فرنسا لدعم المرشحة الفرنسية حال صعودها إلى الدور النهائى قبل المرشح القطرى. فرأيت أن أضيف بعض المعلومات عن هذه السيدة الفرنسية التى فازت بالإدارة العامة لمنظمة اليونسكو، بأصوات تضمنت صوت مصر.
***
من هى «أودرى أزولاى» المدير العام الجديد لليونسكو؟
إنها ابنة السيد «أندريه أزولاى» المغربى الجنسية، اليهودى الديانة، خبير البنوك والمال والأعمال الفرنسى، مستشار ملك المغرب للشئون الاقتصادية.
تولت السيدة «أودرى» وزارة ثقافة فرنسا فى ظل حكم فرنسوا هولاند الاشتراكى. ثم أصبحت المستشارة الثقافية للرئيس الجديد إيمانويل ماكرون المعروف باستناده لدوائر المال والبنوك وعلى رأسها بنك روتشيلد الذى بدأ حياته السياسية من داخله.
اصطحبت إيمانويل ماكرون فى كل جولاته الخارجية بما فيها مؤتمرات السبعة الكبار لدعم ترشحها على رأس اليونسكو.
تدخلت عدة مرات لدى القنوات الفرنسية لفرض إذاعة أفلام وثائقية تدعم وجهة النظر الصهيونية، بما فى ذلك موقف الصهيونية من بيت المقدس.
اشتركت فى كل مؤتمرات المنظمات الصهيونية المنعقدة داخل فرنسا، وخاصة المؤتمر الذى استقبل خلاله الرئيس الإسرائيلى بنيامين نتنياهو.
كان لها تأثير مباشر على الرئيس ماكرون فى تصريحه الشهير بأن معاداة الصهيونية هو فى الأصل معاداة للسامية واليهودية (وهذا هو موقف اليمين الإسرائيلى).
لذلك يبقى سؤال: ماذا سيكون غدا موقف مدير عام اليونسكو ــ الصهيونى ــ إذا طالبت إسرائيل بإزالة المسجد الأقصى لإعادة بناء «هيكل سليمان»..؟؟
أما المناورة التى أدارتها إسرائيل فى بداية الانتخابات لإعلان انسحاب الولايات المتحدة ثم إسرائيل من اليونسكو «نظرا لمواقف المنظمة المعادية لإسرائيل»، فقد كانت مناورة خبيثة بالفعل لتوجيه الأنظار بعيدا عن أى مرشح عربى (مصر أو قطر)، حتى يظل الطريق مفتوحا للمرشحة الفرنسية.
***
هذا الكلام الموضوعى للغاية لو التفتنا إليه لكان أسلوب إدارتنا لمعركة اليونسكو مختلف تماما ولفكرنا فى بدائل ومناورات سياسية أخرى ربما لكانت ساهمت فى نجاح المرشحة المصرية لكننا اعتمدنا على الصوت العالى والتجريح وكأنها معركة شوارع وليس محافل دولية تحتاج لأوراق ضغط دبلوماسية وحملات علاقات عامة دولية تعزز موقفنا وتزيد داعمينا.
الإعلام الذى يعتقد أنه يساند الدولة المصرية هو يضرها بلا شك بأدائه المتدنى والخالى من الموضوعية، الإعلام المهنى والموضوعى هو الذى يستطيع مساندة الدولة عبر تقديم الحقائق والتحلى بالمسئولية الوطنية تجاه القضايا الكبرى.
كل من يلحظ ويراقب الإعلام فى مصر تصيبه صدمة مما آل إليه ــ إلا ما ندر ــ ولم تنجح الهيئات التى تم تشكيلها فى تحسين الوضع العام إذ إنها كثيرا ما تغلب عليها توازنات السياسة وتخشى من الدخول فى مواجهات فى ساحة الكل فيها مستباح.
لو أن هناك نصيحة للسلطة فى مصر تتعلق بالإعلام فهى وجوب رفع يديها وحمايتها لهذه الأبواق التى تدعى مساندة الدولة بينما هى فى الحقيقة تمثل وجها قبيحا يسىء للسلطة وللدولة المصرية، وهنا لا نتكلم عن الداخل المصرى فقط بل المحيط العربى والدوائر الدولية التى تشكل كثيرا من آرائها ومواقفها بناء على الصورة العامة التى يقدمها الإعلام فى مصر.
انتهى زمن الإعلام الموجه، وهدم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى كل وهم يتعلق بتقييد أدمغة الناس والسيطرة عليها بسبب تعدد مصادر المعلومات وصعوبة تغييب الحقائق، لذلك فالملايين التى يتم صرفها بهذا الهدف هى إنفاق فى غير محله ولا طائل منه، سواء كان وراءه أفراد أو جهات أو أنظمة.
يعز على المرء أن يتحول إعلام بلاده لمادة للسخرية والهمز واللمز، ويزيد الأمر صعوبة أن يقدم هذا الإعلام نفسه على أنه واجهة الدولة والمتحدث باسمها وهذا لم يحدث إلا لأن هناك رضا وقبولا، وتشجيع لهؤلاء أحيانا.
نريد إعلاما لا يكذب على الناس ولا يتدنى لمستوى الشتم والتجريح مهما كانت الإساءات من غيرنا، سيحترمنا العالم إذا تحلينا بالموضوعية وخضنا معارك شريفة ترتقى فيها ألستنا وأقلامنا عن النيل من خصومنا بهذه الأساليب التى لا تليق بالكبار.
مصر كبيرة على الرغم من الجميع، من يحبها ومن يبغضها، من يواليها ومن يعاديها، قيمة مصر تترسخ بما يصدر عنها، والكبار دائما يترفعون ولا يسقطون فى أفخاخ منصوبة بعناية للتحقير والإساءة، على أمل أن يكون ما حدث فى معركة اليونسكو درسا لنا بأن نختار من يتحدث باسمنا ومن يقدم مصر للعالم، نحن بالتأكيد نستحق ما هو أفضل لكن علينا أن نسلك الطريق الصحيح.