شريف عثمانعندما أعلن يوسف بطرس غالى فى النصف الأول من عام 2009 عن خطة الدولة لاستثمار ثلاثين مليار جنيه مصرى فى مشروعات تهدف إلى تحفيز الاقتصاد ورفع معدلات النمو، لم يشر إلى الاستخدامات المخططة لتلك المبالغ، وشخصيا لم ألحظ أى استخدام لها بعد مرور نحو العام ونصف العام على الإعلان عنها، اللهم إلا بعض المبالغ الصغيرة التى لا ترقى بأى حال إلى المبلغ الضخم الذى أضيف إلى عجز الموازنة.
وعندما أعلن الدكتور محمود محيى الدين فى يونيو 2010 التراجع عن مشروع الملكية الشعبية وإلغاء فكرة الصكوك المجانية، لم يوضح لنا ما إذا كانت هناك خطة بديلة لمشاركة الأفراد فى مشروعات البنية التحتية العملاقة التى تحتاج إليها الدولة للخروج من عنق الزجاجة وخلق فرص العمل والحد من التضخم. وطبقا لتصريحات الوزير نفسه فقد كان ذلك التراجع يعود إلى أسباب متباينة تتعلق بسن من يستحق التوزيع وضمانات التوزيع وآلياته وغيرها من الأسباب.
فكان الأمر يشبه حالة الأب الذى رقد على فراش الموت، وبدأ يفكر فى كيفية توزيع ثروته بين أبنائه مختلفى الأعمار والحالة الاجتماعية والاقتصادية، ولم يجد وسيلة يضمن بها وصول كل جزء من الميراث لمن يستحقه من الأبناء، فقرر فى النهاية حرمان الجميع من الميراث!
وأنا حقيقة لا أطمع فى أن أرث الحكومة المصرية، ولكن ما يشغلنى هو مصير تلك الشركات التى كانت الحكومة تنوى توسيع ملكيتها من خلال توزيع صكوك مجانية على أفراد الشعب، ويشغلنى أكثر تعمير الصحراء واستيعاب جيوش العاطلين من خلال مشروعات تزيد من معدلات النمو وتقضى على التضخم، فى وقت ترتفع فيه البطالة والتضخم فى مصر، وتنتشر فى أرجاء المعمورة أزمة مالية لا حل لها إلا بتحمل الحكومات عبئا أكبر لزيادة الاستثمارات من أجل تحقيق معدلات النمو المطلوبة. وبالطبع أنا لا أطالب الحكومة المصرية بتحمل المزيد من الأعباء ولكن أقدم اقتراحا قد يساعد على تخفيف العبء عن ميزانية الدولة التى تشهد عجزا متناميا، بشكل أصبح يمثل تهديدا حقيقيا لاستقرار واستقلال الدولة وأصبح يهدد بشكل جاد حقوق الأجيال القادمة، كما أنه يبتعد عن المنطقة الشائكة التى كانت السبب فى التراجع عن تنفيذ برنامج الملكية الشعبية.
ففى القرن السابع عشر وجد العديد من المستثمرين الأوروبيين فرصا ذهبية للاستثمار فى التجارة مع العالم الجديد حينئذ (أمريكا وكندا)، وكان ذلك من خلال بناء السفن التجارية، وإرسالها لشراء بعض المنتجات من ذلك العالم الجديد (بصفة خاصة الفراء) وبيعها فى أوروبا بأسعار عالية لتحقيق الأرباح.
بدأت تلك التجربة بأحد رواد الأعمال وقتها وكان كل ما يملكه عشرة جنيهات إسترلينية. استعان صديقنا هذا بأربعة من أفراد عائلته فساهم أحدهم بثمانية جنيهات وآخر بسبعة عشر جنيها وآخر باثنى عشر جنيها والأخير بثلاثة جنيهات، فتم جمع خمسين جنيها ولما كان الاستثمار المطلوب (بناء السفينة وإرسالها لكندا لشراء البضائع ثم العودة إلى أوروبا) يحتاج خمسة آلاف جنيه، فقد قام المستثمرون الخمسة بالإعلان عن مشروعهم للعامة، فكان من هؤلاء من رغب فى المشاركة فى ذلك المشروع، فجاءوا بأموالهم وتم إعطاء كل مستثمر ورقة (صك) بالمبلغ الذى دفعه حتى أتموا مبلغ الخمسة آلاف جنيه المطلوبة وتم بناء السفينة وإرسالها إلى كندا ثم عادت وبيعت البضاعة وحصل صديقنا الذى دفع عشرة جنيهات على مبلغ جنيهين كنصيب فى الأرباح (أى أن العملية حققت أرباحا تقدر بعشرين بالمائة).
التجربة نجحت، وازداد المستثمرون ثقة وحماسا لتكرارها، وبدلا من توجيه سفينة واحدة تم الاتفاق على بناء خمس سفن، على أن يتم إرسالها جميعا فى وقت واحد. وبالطبع ارتفعت التكلفة بصورة كبيرة (وصلت إلى خمسة وعشرين ألف جنيه) مما استحال معه جمع تلك الأموال من عامة الشعب وقتها، فقرر المستثمرون الاقتراض، وكان هناك وقتها مصدران وحيدان للاقتراض: الملك والكنيسة، لكن الكنيسة رفضت باعتبار المشروع به بعض المخاطرة، أما الملك فقد رأى أنه لن يخسر شيئا، فهو يعرف كيف يسترد أمواله فى كل الأحوال، كما أن فرصة تحقيق الربح كانت مغرية جدا.
اقترض المستثمرون المبلغ من الملك وأرسلوا السفن ثم عادت السفن بعد شراء البضائع ولكن أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، حتى غرقت بما عليها من بضائع واستعوض المستثمرون ربهم فيما دفعوا من أموال. أما الملك فقد كان له رأى آخر. فقد أمر باسترداد جميع الأموال التى دفعها وأوضح أن غرق السفن لا يعنيه فى شىء.
فى ذلك الوقت كان من لا يرد الأموال المقترضة للملك لا يسجن، وإنما يقتل!. وبالتالى ذهب كل مستثمر ليبيع كل ما يملك من أجل رد الأموال المقترضة من الملك حتى انتهى الأمر بأغلب المستثمرون «بنومهم على الرصيف» واسترداد الملك لكل أمواله.
ما علينا.. المهم، أدركت الحكومات فى ذلك الوقت إمكانية توفير أموال طائلة من خلال الشعب من اجل القيام بالمشروعات الكبيرة. ولكن ما سبق سبب الذعر للمواطنين وجعلهم يحجمون عن المشاركة فى أى مبادرة من هذا القبيل، إلى أن أعلنت الحكومة مبدأ المسئولية المحدود (Limited Liability) بمعنى أن كل مستثمر سيكون مسئولا فقط عن مقدار مساهمته فى المشروع ولن يتحمل أية مديونية على المشروع/ الشركة، خصوصا أنه لن يتم اقتراض أية أموال من الملك.
لو كان الأمر كذلك فى الحالة السابقة، لما كان صديقنا قد خسر أكثر من الجنيهات العشرة التى ساهم بها فى المشروع، ولم تكن أية مديونية لتطول ممتلكاته الشخصية، ومن هنا جاءت فكرة مشاركة أفراد الشعب فى المشروعات العملاقة، التى تكون عادة كثيفة العمالة وتركز على مشروعات البنية الأساسية وغالبا ما تحقق أرباحا: خطوط سكك حديدية أو مشروعات زراعية فى المناطق النائية غير المستغلة من مساحة الدولة، أو المشروعات الصناعية التى لا ترغب أو لا تستطيع الدولة القيام بها وحدها. يتم بعد ذلك اختيار مجلس إدارة والذى يقوم بدوره بتعيين الوظائف الأساسية فى الشركة وعلى رأسها الرئيس التنفيذى وغيره من المناصب المهمة فى الشركة والذين تتم محاسبتهم كل فترة. أما المستثمرون فيحصلون على الأرباح إذا حققت الشركة أرباحا كل حسب مساهمته فى رأس مال الشركة.
الفكرة جميلة وقديمة، ومن الممكن بقليل من التخطيط والتنظيم أن يتم بها تكوين العديد من الشركات فى مصر، والتى يتعين عليها أن تنحصر فى المشروعات كثيفة العمالة. وأن تستثمر فى مشروعات فى المناطق النائية. نحتاج للخروج من عنق الزجاجة وحكومتنا لا تستطيع أن تفعل الكثير فى هذا الخصوص. نحتاج للخروج من الوادى الضيق إلى الأرض الفسيحة، ونحتاج لمشروعات بنية تحتية توفر حياة ولو «شبه كريمة» فى المناطق النائية وأعرف العديد من رجال الأعمال والمستثمرين ممن هم على استعداد للمشاركة فى تلك المشروعات بمجرد إعلان الحكومة اعتزامها القيام بها، ولا يصح أن نبقى كل ذلك الوقت فى حيرة من أمرنا فى قضايا حسمت ببساطة شديدة وحزم شديد أيضا فى عديد من البلدان التى كانت منذ عقود قليلة تنظر إلينا كمثل أعلى وتقتدى بنا فى تجربتها كدولة ناشئة تسعى لتحقيق نهضة حقيقية.