من ثلاثة أحرف سماها والدها لأنها أول «فرحة» كما يقولون، وضعا فى «أمل» كل حبهم وطموحهم فى حياة يتمنونها مليئة بالرضا والكفاف. وكان هذان الوالدان المكافحان قد تعاهدا معا عند زواجهما لعمل ما باستطاعتهم لتمكين أطفالهم من حياة أفضل وأكثر رخاء من حياتهما المليئة بالمعاناة لتأمين الحد الأدنى من المتطلبات.
ترعرت أمل فى ظل هذين الأبوين العطوفين وتدرجت فى مدارسها المختلفة وهى تجتاز المرحلة تلو الأخرى بتفوق واضح تصحبها فرحة كبيرة من أبويها ثم من إخوتها الصغار. ولما وصلت أمل للمرحلة الجامعية أحبت أمل أن تدرس ما يدعم حبها واهتمامها بالطعام والصحة لذلك التحقت بأحد التخصصات الذى يهتم أساسا بمنظومة التغذية والصحة، بالتالى استفادت للغاية من المعرفة التى نقلها لها أساتذتها خلال سنوات دراستها الجامعية. ولحبها لما تعلمت كانت دائما فى معية الطالبات والطلاب المتفوقين المحبوبين والمدعومين من الأساتذة.
دفعتها مناقشاتها مع أساتذتها وإطلاعها على العديد من الأوراق البحثية والتقارير الحديثة إلى إدراك أهمية موضوع التغذية الصحية، ولأهميته يجب أن يتم تناوله فى إطار منظومة إنتاج الطعام بدءا من الزراعة ومدخلاتها، مرورا بنقل المنتجات الزراعية وما يفقد منها، وحتى إعداده وتجهيزه، ثم انتهاء بكيفية استهلاكه فى المنازل أو المطاعم أو فى المدارس.
بعد تخرجها بحثت عن عمل فى تخصصها لا يكون بعيدا عن مسكنها، وبعد عدة أشهر من البحث ولأنها لم توفق فيما كانت تسعى إليه قبلت العمل كمدرسة فى إحدى المدارس الابتدائية التى تقع على حافة قرية زراعية ليست بعيدة عن مسكنها. وقامت فيها بتدريس ما يتناسب مع ما تلقته فى جامعتها، وخاصة مادة العلوم، كما درست أيضا اللغة الأجنبية التى كانت متفوقة فيها نتيجة حرصها على الإطلاع على الأبحاث والدراسات الحديثة الصادرة من أنحاء العالم المختلفة والتى كان أساتذتها يلفتون الانتباه لها باستمرار.
• • •
كان يؤلمها فى ذهابها وعودتها اليومية من عملها انتشار الوجوه العابسة وندرة الوجوه الباسمة وتدهور الاهتمام بالآخرين، بل اهتمام الناس بأنفسهم، كما يبدو فى زيهم وتعاملهم معا فى الشوارع والمحال العامة. كان صعبا على أمل أن تستوعب كيف لمجتمع ذى تاريخ عريق مثل مجتمعنا أن ينتشر فيه ما ينتشر من الأفكار والأقوال التى لا تتبدى ممن توفرت لهم معرفة جادة فى أطوار التعليم المختلفة، ويزيد آلمها عندما يمر بخاطرها ما قرأته لأحد كتاب مصر الكبار مندهشا من حال المصريين الآن وكيف أنهم لا يدركون أو لا يأخذون على محمل الجد حقيقة أنهم كانوا أصحاب أول مبادرة حضارية فى التاريخ.
ما شغل بال أمل فى عملها هو كيف يمكن أن تساعد هؤلاء الصغار حتى يتمكنوا من تغيير حالهم وحال من حولهم للأفضل، وهل يمكن أن يصنع ما تعلمته فى سنين الجامعة فارقا هاما لهم؟ دفعها هذا للعودة لبعض الدراسات والأوراق البحثية التى تأثرت بها كثيرا فى الجامعة، ومن أولها تلك الدراسات الحديثة التى ربطت الغذاء الصحى بمنظومة الطعام ككل وأيضا بنشاط الإنسان البدنى والذهنى وصحته العقلية، وتتذكر أن تلك الدراسات ربطت ذلك أيضا بصحة كوكب الأرض ككل وصحة جميع الكائنات الحية. تتذكر كيف كان الأستاذ يشرح لهم ذلك، فإن الأرض ومن عليها عبارة عن منظومة معقدة مثل خلايا المخ كلها مترابط معا وكل تأثير على مكان ولو كان صغيرا يترك أثرا على المنظومة ككل. وكان يستطرد فى شرح ذلك ويقول، إننا يمكننا إذا اخترنا الأماكن الصحيحة التى نهتم بها يمكن أن يؤثر ذلك على الأماكن الأخرى لأن الكل مترابط معا. وكان يشرح أننا إذا أردنا أن نحقق صحة أفضل للإنسان يجب أن نربط ذلك بالحفاظ على كوكبنا والأرض التى نعيش عليها والتى بدون مواردها المتجددة غير الملوثة، وبدون الكائنات البرية فيها سواء الكبيرة منها أو الصغيرة أو التى تعيش فوق الأرض أو تحتها لا نستطيع أن نضمن لأنفسنا ولأطفالنا الطعام الصحى والماء والهواء النقيان.
• • •
فهمت أمل جيدا أننا إذا أردنا أن نبدأ التغيير فى مجتمعنا فلن يكون ذلك عن طريق الاهتمام بالمظهر الخارجى للمدرسة وطلائها ــ وإن كان هاما ــ أو ببناء الكوبرى الذى يعبر النيل بدلا عن المعديات، الذى ربما يحتاج القليل من الاعتناء حتى يقوم بمهامه على الوجه الأكمل، ولكن يمكن أن نبدأ هذا التغيير بالاستثمار فى تحسين غذاء أطفالنا خاصة فى سنين دراستهم الأولى.
قرأت أمل العديد من الدراسات وأطلعت على العديد من تجارب الدول، وخاصة ما يشبهنا منهم، كما أطلعت أيضا على تجارب الدول المتقدمة فرأت أنه يمكننا الاستفادة منها بسهولة. ورأت فى كل الدراسات السابقة كيف تُعطى الأولوية لما يأكله الأطفال فى المدارس، وكيف يهتمون بالوجبة المدرسية وما يجب أن تحتويه من مكونات بعضها طازج والبعض ساخن، وتكون وجبة متكاملة تمثل حجر أساس لنمو عقل وجسم الأطفال، أى ما يضخ فى أجسادهم من طاقة تمكنهم من ممارسة الرياضة ومن الاستيعاب الجيد للمعارف التى يتلقونها، كما تساعدهم فى تقوية جهازهم المناعى بما يحميهم من العديد من الأمراض لمساعدتهم على الحضور للمدرسة وممارسة الأنشطة المختلفة لأطول وقت.
• • •
قرأت أمل أيضا عن اقتراح لمشروع فى مصر يتبنى تغيير منظومة الطعام ويتبنى استخدام المدارس كمشروع تجريبى يتم فيه زراعة بعض الخضر الطازجة التى يشارع فى رعايتها التلميذات والتلاميذ، والتى يتعلمون من خلالها الكثير عن العالم من حولهم من خلال خطوات الزراعة المختلفة؛ وفى النهاية، يستفيدون من الإنتاج فى وجبتهم اليومية. كما يتعلمون عن الوجبات الصحية من خلال استقدام بعض مشاهير الطبخ لتحضير وجبات سريعة وصحية ولذيذة. وقرأت أن هذا المشروع التجريبى الذى لن يتكلف الكثير سيكون البداية فى تغيير علاقة الناس بالطعام ــ ليس التلاميذ فقط ولكن بالضرورة أهاليهم الذين يتم دعوتهم للمدرسة كل حين لمشاهدة تلك التجربة والاستفادة منها، كذلك ستتم دعوة المزاعيين النقاش معهم بما يفيد التلاميذ وأهاليهم.
هذا المشروع جعلها تتمنى لو يتم تمكينها من العمل كأخصائية تغذية للمدرسة التى تعمل فيها، ربما يكون باستطاعتها المساهمة بصورة أفضل فى دعم وتمكين أجيال عديدة. وتخيلت أن ذلك سيؤدى بالضرورة لظهور العديد من النابغين والنابهين منهم والذين سيكونون أكثر قدرة على التعامل مع التحديات العديدة التى تواجهنا حاليا، والتى يعرف الجميع أنها فى ازدياد، وأن طريق مواجهتها الأول سيكون من خلال الابتكار والبحث والعلم الواعى بدقة بالبيانات والمعلومات عن البيئات والمنظومات الطبيعية المحلية والكائنات التى تعيش فيها والتى تتطلب حلولا مصممة خصيصا لها لا لغيرها.
كان لدى أمل طاقة كبيرة مكنتها من التعامل بحب كبير مع تلميذاتها وتلاميذها، فتنصت لهم باهتمام وتشجعهم وتدعمهم وتناقشهم وترشدهما باسمة لطرق المعرفة المختلفة. وكانت عندما تسمع لبعض الأسئلة الذكية وترى العيون اللامعة تذهب فى خيال لحظى تتصورهم فيها بعد سنوات وقد ذاعت نجاحاتهم وظهرت فى العديد من البؤر المضيئة هنا وهناك. تعرف أمل أن نجاح وتفوق هؤلاء الصغار النابهين هو ما يحتاجه مجتمعهم بل أيضا ما يحتاجه جيرانهم فى المجتمعات التى ليست بعيدة عنا.
• • •
لم تستسلم أمل أبدا لمن حاول أن يثنيها عن أفكارها ويدعوها لتقبل حالنا، ولكن طاقتها التى كانت تتراوح بين الارتفاع والانخفاض التى تستدعى لرفعها صورة الأطفال النابهين أو التواجد بالقرب من النيل. وفى نهاية أسبوع ملىء بالعمل والنقاش وأثناء عودتها من عملها فى مدرستها وبصحبة زميلة لها استأذنتها فى الوقف قليلا أمام صفحة النهر القريب لكى تتخلص من أعباء يومها، ثم خطر على بالها أن تركب المعدية التى لم تركبها من وقت طويل لترى ما فى الضفة الأخرى وطلبت من صاحبتها أن تنتظرها فهى لن تتأخر. وانتظرتها صاحبتها كثيرا ثم حاولت الاتصال بها ولكن دون جدوى، وحين افتقدها أهلها بحثوا عنها كثيرا لكن لم يحالفهم الحظ.
لم تكن «أمل» أملا لأهلها فقط ولكنها كانت أحد مصادر الطاقة المتجددة لصاحباتها. كما كانت المرشدة والصديقة لتلاميذها وتلميذاتها. لم يفتقد فيها الجميع إنسانا رحيما وعطوفا فقط ولكنهم افتقدوا أيضا ما كانوا يرونه فى عيناها من تشبث بالمستقبل الأفضل، التى لطالما قالت إننا نستحقه جميعا. وافتقدوا فيها ما كانت تراه من أن هذا المستقبل الأفضل يبدأ من عندنا من اهتمامنا بصحة أطفالنا وسلامة الطعام الذى ننتجه بالقرب منا وينمو فى هواء غير ملئ بالدخان والملوثات، ويُروى بماء نظيف غير ملوث، ويخرج من تربة لا تخنقها المبيدات أو الأسمدة الصناعية.