البعض يُصرُّ على المشاغبة مع الدين وعلمائه، ويُصرُّ على المشاغبة كذلك مع المساجد والكنائس، دون أن يكون لهما علاقة بالموضوع الذى يتحدث عنه، وبعضهم كتب مغردا «الكورونا أثبت أن عدد المستشفيات لازم يبقى أضعاف دور العبادة، وإن تبرعاتك لغرفة عناية مركزة أفضل ألف مرة وأكثر ثوابا من التبرع لبناء جامع أو كنيسة».
وكأن هناك تناقضا بين المسجد والكنيسة، والمستشفى والعناية المركزة، ومع أنها جميعها لها رسالة سامية، وكل يُكمِّل الآخر، فلن يعيش الناس دون إيمان، ويقين، ولجوء إلى الله، ومحبة للمحبوب الأعظم وهو «الله»، وثقة به من خلال دور العبادة، ولن يعيش مجتمع بصحة جيدة دون مستشفيات متطورة، ومراكز صحية متقدمة، فالصحة لا تُغنى عن الإيمان، وإلا كنا فى أجساد البغال، وقسوة الحجارة وغلظتها.
القياس باطل يا سيدى، دع المساجد والكنائس فى حالها، لا تشغب عليها كثيرا فقد كفتك أمرها.
كان بإمكانك أن تنصف الدين مرة واحدة لو قلت إن كل هذه الإجراءات التى اتخذها العالم فى موضوع كورونا، أخبر عنها الرسول منذ أكثر من 15 قرنا، وهو يتحدث عن عدوى الطاعون: «إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم فيها، فلا تخرجوا منها»، ولكنك للأسف لا تنصف المسجد والكنيسة ولا الرسل، فى مواقف تفزع فيه كل الأمم إلى دينها وأنبيائها ورسالاتها؛ لتستمد منهم المدد الروحى.
لو كان مثل هذا الرجل منصفا لأنصف الإسلام العظيم الذى أنجب إمام العدل، أعظم رجل دولة، وهو عمر بن الخطاب، أول من طبق عمليا أحكام الحجر الصحى فى التاريخ، حينما حدث طاعون عامواس بالشام، فأمر ألا يدخل مدن الطاعون أحدا ولا يخرج منها أحدا، ولو كان وأمثاله منصفين لأنصفوا رجل الدولة المخضرم، عمرو بن العاص، الذى تولى حكم الشام بعد إصابة أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح بالطاعون واستشهاده به، وكذلك سيدنا معاذ، فأصدر أمره للناس بهذه الكلمات الرائعة «أيها الناس إن الطاعون كالنار المشتعلة، وأنتم وقودها فتفرقوا وتجبلوا»، أى اذهبوا قريبا من الجبال وبعيدا عن المدن المكتظة، «حتى لا تجد النار ما يشعلها فتنطفئ وحدها، فلما سمعوا واستجابوا نجوا جميعا» هذه كلمات عبقرية لم نر أحدا من العلمانيين العرب ينصف مثل هذا الصحابى فى مثل هذا الموقف.
فهذا ترامب رأس العلمانية يدعو أمريكا للصلاة، وهذا ستالين خصم الأديان ورأس الشيوعية فى عصره يفتح المساجد والكنائس، ويذهب إليها، ويدعو الروس إليها بعد غزو هتلر لبلاده.
هؤلاء يعلمون قدر السماء وقدر الله أكثر من بعضنا؛ لأن حيلهم البشرية قد عجزت، نريد ألا نعبد الأسباب، ولا نتركها فى الوقت نفسه، نهتم بالمصل ولكن لا نقدمه على الله، أو نعبده من دون الله.
لا تعارض بين المسجد والكنيسة والمستشفى، لو قام كل منهم بدوره، فالمسجد والكنيسة هما المستشفى الأكبر والأشمل والأعم.
ويكمل صاحبنا مشاغباته مع الدعاء والذكر ويقحمهما فى أمر لا علاقة لهما به فيقول «الفيروس لن يحترم دينك ومذهبك، ولكنه سيحترم مناعتك ووقايتك، ولن يخش الفيروس دعاءك وأذكارك، ولكنه سيخشى لقاحك ودواءك».
كلام ظاهره نافع، وباطنه يوشى بأن الذكر، والدعاء، واللجوء إلى الله، لن ينفعوا الإنسان بشىء، سواء فى مواجهة المرض أو غيره، المهم لقاحك ودواؤك، إذا فماذا عن آلاف الأمراض التى ليس لها لقاح ولا دواء، ماذا عن القوة المعنوية التى يبثها الإيمان، والتى أثبتها الطب، وهى أقوى رافع للمناعة، ولك أن تراجع كل أطباء الأمراض النفسية.
الأديان أمرتنا بالبحث عن اللقاح والدواء والرسول «ص» أمرنا بالتداوى «تداووا عباد الله»، وسيدنا عيسى كان يشفى الأبره، والأكمه، ويحيى الموتى، بإذن الله، وجمع الله له الإحيائين المادى والمعنوى، إحياء الروح بالإيمان، وإحياء الجسد بشفاء الأمراض.
اللقاح مهم ولكنه ليس كل شىء، الطب مهم ولكنه ليس كل شىء، وأخطر ما تصنعه هو صناعتك لخصام مفتعل بين الدين والحياة، والواجب والواقع، والمسجد والكنيسة والمستشفى، والنص والعقل.
ذكر الله واللقاحات والأمصال، الدعاء والتداوى، كلها من الله الواحد الأحد، كلها أمر الله بها، كلها من مصدر واحد.
هذا الخصام النكد لم يأت من الدين، بل أتى من عند أناس لم تتذوق قلوبهم حلاوة الذكر الذى هو أعظم الطاعات قاطبة وأسهلها «ولذكر الله أكبر»، لم تهم قلوبهم بالمحبوب الأعظم سبحانه، فظنوا التواصل معه نوعا من العبث واللهو أو كراهية الحياة.
يا قوم أعظم من يعمرون الحياة، وينيرونها هم أصحاب الوصال الحق مع المحبوب الأعظم سبحانه.
وبيوت الله تزيد أهميتها عن المستشفى، لأنها المستشفى الأكبر الذى يعالج الناس من الأدواء الباطنة مثل الحقد، والشح، والغلظة، والقسوة، والأنانية، والغرور، والكبر، أما المستشفى فهو يعالج فقط الأمراض الظاهرة.
القياس الصحيح الذى نسيه ويصر على نسيانه البعض هو أن عدد المستشفيات، وأقسام العناية المركزة، لابد أن تكون أكبر من المقاهى والكافيهات، لابد أن تكون أهم من أقدام لاعبى الكرة التى يباع ويشترى الواحد منهم بالملايين، وأولى عند الناس من تجارة المخدرات التى ينفق الشعب المصرى المليارات عليها، وتدمر صحته وعافيته، لابد أن تكون أولى من التدخين والشيشة، والتى تباع بمليارات.
ويمكن لهؤلاء المشاغبين مع المساجد والكنائس أن يراجعوا مليارات المصريين التى أنفقوها على المخدرات والدخان والشيشة العام الماضى وهى تكفى لبناء آلاف المستشفيات.
ثم يكمل الرجل مشاغباته «فيطالب الأزهر والأوقاف بمنح أموالهم التى قدرها الرجل بـ 27 مليار جنيه لإنشاء مستشفيات» ناسيا أن يطالب النوادى، والفنادق، والملاهى الليلية، وشركات الإنتاج السينمائى، وتجار الخمور، أن يدفعوا أموالهم كذلك.
وناسيا أن أموال الأوقاف الإسلامية كلها أخذتها الدولة وتصرفت فى أغلبها منذ أن صودرت فى الستينيات، وأن الأوقاف لا تملك منها شيئا، ولولا الجهود الشعبية فى خدمة المساجد، وتزويدها بالمكيفات، والإضاءة الحديثة، والسجاد الجيد، ما أصبحت كذلك.
وطبعا صاحبنا الهمام لا يستطيع توجيه هذا التقريع لغير الأزهر والأوقاف؛ لأنه لو فعله مع غيرهما سيعرف مغبة ذلك، أما الإسلام ورجالاته فهم «الحيطة الواطية» التى تهون، ومعهم الإسلام على هؤلاء.
العلمانى العربى من أسوأ أنواع العلمانيين فى الغالب لأنه لا يعرف الحرية، ولا الليبرالية، ولا يكره فى الأديان إلا الإسلام، ويكيل بألف مكيال، ويعشق الاستبداد، ومعظمهم نشأ على مائدة الشيوعية رمز الديكتاتورية العريقة.
مشكلة الناس ليس لدعائهم واستغفارهم، ولكن لنقص الدعاء والذكر مع قصور العلم والفهم، فقد قصَّرت أمتنا فى تلك الأمور «الإيمان والعلم، والدعاء واللقاح، والذكر والمصل»، وفقدت أمتنا تلك الأمور «النص والعقل، الإيمان والعلم».