طرح د. خالد فهمى فى مقاله فى الشروق بتاريخ ١٢ ــ ٤سؤالا مهما هو: كيف نكتب تاريخنا الحربى؟ وحقيقة الأمر أنه لم يكن مجرد سؤال يبحث عن إجابة ولكنه فتح بابا للحوار ظل مغلقا على مدى سنوات طويلة، فرغم أن مصر خاضت فى ربع قرن فقط من ١٩٤٨ وحتى ١٩٧٣ خمس حروب كبرى ضد العدو الإسرائيلى (٤٨ ــ ٥٦ ــ ٦٧ ــ الاستنزاف ــ ٧٣) وحرب ذات طبيعة خاصة استمرت على مدى ٥ سنوات ٦٢ ــ ١٩٦٧ على جبال اليمن، وعاشت فى حالة حرب من ١٩٤٨ وحتى ١٩٨٢، إلا ان الباحث التاريخى المدقق لا يجد سبيلا لدراسة تلك الحروب وتحليلها واستخلاص دروسها إلا من خلال وثائق أجنبية إما تلك التى ينشرها العدو نفسه الذى كنا نحاربه أو الأطراف الأجنبية ذات الصلة بتلك الحروب، أو دراسات وتحليلات خبراء ومحللين ومراكز دراسات أجنبية، وعند البحث عن مصادر وطنية فلا يجد الباحث إلا النذر اليسير من المذكرات الشخصية لبعض القادة يغلب عليها طابع السير الذاتية أو الدفاع عن مواقف شخصية، فلا وثائق رسمية تسجل الوقائع والمواقف وسير العمليات والحوادث والقرارات، ولا تحليلات ودراسات متخصصة تخضع لمنهج علمى يمكن الاعتداد بها، ولا حتى تقديرات رسمية للغنائم والخسائر، والأمثلة كثيرة، فإذا حاولنا دراسة حرب ٤٨ التى مضى عليها ٦٥ عاما لا نجد سوى كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «جيوش وعروش» الذى يضم مجموعة وثائق وبرقيات عن سير العمليات توافرت له بحكم علاقته بعبدالناصر، وإذا انتقلنا إلى حرب ٥٦ فلن نجد سوى مجموعة من الكتابات السياسية وتمجيد للنصر السياسى وبعض ذكريات عن المقاومة الشعبية فى بورسعيد، أما حرب يونيو ٦٧ فحدث ولا حرج عن كتابات تركزت كلها حول تصفية حسابات سياسية وشخصية ولعل الجهد الوحيد الجاد كان ما قام به الفريق محمد فوزى من إصدار كتاب «الجولة العربية ــ الإسرائيلية الثالثة صيف ١٩٦٧» وكان محظور النشر خارج القوات المسلحة ثم تم سحبه حتى من القوات المسلحة، وحرب الاستنزاف رغم ما قدمته من دروس عسكرية شديدة الأهمية لم تتح وثائقها واقتصر الأمر على تمجيدها والإشادة بإنجازاتها، وجاءت حرب أكتوبر ٧٣ أعظم حروب الجيش المصرى فى تاريخه الحديث ورغم مرور ٤٠ عاما عليها فقد تم اختزالها فى أمرين الأول فى حقبة السادات لم يكن هناك ذكر سوى لقرار الحرب وملابساته وعظمته وكأنه هو كل الحرب، ثم وعلى مدى ٣٠ عاما من حكم مبارك تم اختزال الحرب فيما يعرف بالضربة الجوية!! وحتى الدراسات الأجنبية لم يكن من السهل الحصول عليها ولم تكن متاحة فى مصر وكان الباحث يعانى مصاعب جمة فى الحصول عليها. وظل هذا الأمر قائما على مدى سنوات حتى تفجرت ثورة المعلومات ولم يعد بالإمكان حجب ما ينشر فى أى مكان فى الدنيا ولدى نموذج عن كتاب رغم أنه لم يكن يتناول وقائع الحرب ولكنه يتناول رحلات كيسنجر المكوكية خلال مرحلة فض الاشتباك وهو كتاب «العرب والإسرائيليون وكيسنجر» الذى كتبه أحد الصحفيين المرافقين لكيسنجر خلال تلك الرحلات وهو ادوارد شيهان ورغم أنه ترجمة هيئة الاستعلامات إلا انه مختوم بخاتم محظور النشر! وفى هذا السياق نذكر أن الفريق الشاذلى تمت محاكمته بجريمة إفشاء معلومات عسكرية كان يعلمها بحكم منصبه السابق بسبب ما نشره عن بعض وقائع حرب أكتوبر وصدر بتلك المناسبة قانونا يحظر النشر فى هذا المجال قبل مرور ٥٠ سنة.
●●●
الهدف من هذه المقدمة توضيح إن المشكلة أكثر تعقيدا من مجرد نقص الوثائق أو المعلومات ولكنها ترتبط اساسا بفلسفة السلطة التى كانت قائمة وتفرض ستارا حديديا على العلاقات المدنية ــ العسكرية بمفهومها الواسع فالقوات المسلحة سلما وحربا كانت محاطة بسياج حديدى محظور الاقتراب منه تحت مبرر الحفاظ على الأمن القومى وسلامة القوات المسلحة وهو حق ولكن كان يراد به باطل فى هذا الأمر بالتحديد، ولا شك أن مصطلح العلاقات المدنية ــ العسكرية من المصطلحات التى لم يكن واردا التعرض لها أو استخدامها بأى حال على مدى أكثر من ٦٠ عاما وبالتحديد منذ صعد العسكريون إلى السلطة فى يوليو ٥٢ رغم أن هذا الموضوع اصبح محل اهتمام بالغ خاصة فى العقود الثلاثة الأخيرة مع المتغيرات الديمقراطية الحادة التى شهدها العالم ولا يزال يشهدها فى مناطق عديدة خاصة أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وما شهدته من ثورات اسقطت النظم الشمولية وكذا بعض دول أمريكا اللاتينية وحتى الدول الديمقراطية المستقرة مثل بريطانيا والولايات المتحدة ودول أوربا نظرا للتحديات الأمنية التى فرضها نشاط الإرهاب الدولى على تلك الدول والحرب اللا تناسقية ضده.
●●●
إذا المشكلة الحقيقية التى تقف حائلا بيننا وبين كتابة تاريخنا الحربى الحقيقى لنستخلص منه الدروس والخبرات تكمن فى ضبط العلاقات المدنية ــ العسكرية بما يحقق التوازن ما بين متطلبات الحفاظ على الأمن القومى للدولة وضرورات بل وحق الشعب فى المعرفة والرقابة والمحاسبة والأهم الدراسة والتحليل والتقييم لتعظيم الإيجابيات وتجنب السلبيات ولأنه كما فى التاريخ فى الحرب أيضا لا مكان لكلمة «لو» فلا محل للقول بأن دراسة حرب ٤٨ من خلال وثائقها الرسمية واستخلاص دروسها العسكرية كانت ستنعكس حتما على الأداء العسكرى فى حرب ٥٦، ونفس الحال بالنسبة لدروس حرب ٥٦ وما كان يمكن أن تفيده فى حرب يونيو ٦٧، الأمر جد خطير لأنه يتعلق بمستقبل الأمة ومحور الارتكاز الرئيسى لأمنها وهى القوات المسلحة وإعدادها لحروب المستقبل التى تعتمد على العلم والدراسة والإبداع الفكرى والتاريخ فى مقدمة العلوم التى تلهم الفكر العسكرى وتثريه. وحان الوقت الذى ننزع فيه لافتة «ممنوع الاقتراب والتصوير» عن تاريخنا الحربى على أقل تقدير بالنسبة للباحثين الجادين بضوابط موضوعية.
مدير المركز الدولى للدراسات المستقبلية