كثيرا ما نسمع ممن هم أكبر منا سنا وأوسع خبرة عن سرعة الحياة، وكيف أنهم وبلمح البصر انتقلوا سنوات ضوئية بأكملها فى قفزة واحدة فباتوا حيث هم اليوم، ينظرون إلى مراحل حياتهم بنوع من عدم التصديق فى أنها باتت وراءهم.
ينصحوننا أن نستمتع بكل لحظة مع أولادنا وهم صغار لأنهم (أى الأولاد) سيذهبون فى حال سبيلهم بأسرع مما نتوقع. يطلبون منا أن نتريث وألا نستعجل الأمور، لأننا يوما ما سنجلس وحدنا فى غرفة هجرها الأصدقاء، فنندم على انشغالنا بأمور بدت يومها أنها مهمة إنما ربما لم تكن بتلك الأهمية فى آخر الأمر.
أتوقف أحيانا عند نصيحة كهذه، أنظر فى وجوه من يقدمونها لى، وقد حفرت الأفراح والأحزان تجاعيد جميلة حول عيونهم. أكثرهم أناس استهوتنى حياتهم فسألتهم عن تضاريسها، هم أناس أثروا بى سواء بسبب عملهم أو مواقفهم السياسية أو الإنسانية، أو لما لديهم من مشاعر إنسانية جذبتنى فأردت أن أتعلم من خبرتهم كيف تصالحوا مع بعض الأمور، كيف عالجوا توقعات المجتمع، كيف أصبحوا بالجمال الداخلى الذى هم عليه.
سواء سألت من أراهم قدوة فى المجال المهنى أو مثالاً يحتذى به على الصعيد الشخصى والإنسانى فأنا أتلقى دوما نفس النصيحة: التريث قليلاً وإعطاء النفس فرصة للتمعن فيما يدور حولنا، ومن ثم فهمه وهضمه، وكذا للتأمل فى محيطنا ومحاولة التوقف عند اللحظات المهمة لاستيعابها.
تلك اللحظات يمكن أن تكون سعيدة أو حزينة، وفى الحالتين تكون النصيحة أن نعطى أنفسنا فرصة للتعامل مع اللحظة بحلوها ومرها، أن نعيش شعور الفرح بدل التركيز على تفاصيل التحضير لحفلة العرس، أن نأخذ وقتنا حين نحزن على شخص فقدناه بدل الغرق فى الأمور اللوجستية، حتى لو أن التفاصيل اللوجستية قد تشغلنا قليلاً عن الحزن. نصيحة من هم أكبر منا سنا وأوسع خبرة هى ألا ندع العمل والتفاصيل العملية والواجبات وتوقعات المجتمع من حولنا تطغى على لحظات إنسانية نندم فيما بعد على أنها تسللت من بين يدينا دون أن نتمسك بها.
***
هل فعلاً من الممكن أن نمضى ساعة إضافية نلعب فيها مع الأولاد دون أن يدق فى رأسنا ناقوس المسئوليات الأخرى؟ هل فعلاً ممكن أن نخصص أمسية فى الأسبوع لوالدينا دون أن نتذكر أننا مدعوون إلى عشاء عمل فى نفس اليوم؟ هل نستطيع فعلاً أن نخرج من عملنا أبكر قليلاً لنلحق بحفل المدرسة الذى يغنى فيه ابننا الخجول؟ نصل إلى الحفل متأخرين وقد بدأ فصله فى المسرحية.
نندس فى الصف الأخير من الحضور فى الصالة المكتظة. ننظر إلى المسرح فنرى طفلنا يقف فى الزاوية وقد احمر وجهه، فهو فعلاً يكره أن يكون محل الانتباه ويبحث فى الصفوف الأولى من الحضور عن وجه مألوف، عن الأم أو الأب فلا يجدنا. نتحرك باتجاه المسرح عله يرانا فيطمئن، لكن الطريق مسدود بمن حضر قبلنا فى الموعد المحدد. يبدأ شعورنا بالذنب فى التحكم بأعصابنا ونحن نطلب من الآخرين أن يفسحوا أمامنا الطريق حتى نصل إلى مكان يرانا فيه ابننا. يتذمر البعض ويتفهم آخرون إلى أن نصل إلى مكان فى الجانب الأيمن من المسرح ونحرك أيدينا فيرانا الصغير ويشرق وجهه.
كان من الممكن أن نخرج قبل نصف ساعة، كان من الممكن أن نعيد ترتيب يومنا بحيث نعطى تلك الحفلة الأهمية، التى تستحقها، حتى نعطى طفلنا ذلك الشعور بالاسترخاء والطمأنينة إلى أننا معه. كما من الممكن أن نتوقف فنربت على كتف صديقة فقدت زوجها، أو نصطحب والدتنا إلى السوق حتى وإن لم نكن نحن أو هى بحاجة إلى شىء محدد. فى البيت نتساءل متى جلسنا ننظر إلى ما حولنا دون أن تنقر فى رأسنا تلك اللائحة التى سجلنا فيها أعمالاً يجب أن نقوم بها. متى تأملنا شريكنا وأولادنا وأصدقاءنا بعيدا عن التفاصيل الحياتية؟ لكن أليست التفاصيل تلك هى ما تصنع الحياة؟ أليست الحياة عبارة عن مجموع التفاصيل اليومية التى تصبح، حين نكبر، الروتين الذى نفتقده والذكريات التى نستحضرها، حين يكبر الأولاد ونتقاعد، فلا نعود مضطرين أن نرتب صباحنا على ساعات باص المدرسة وبدء اليوم فى الوظيفة؟
***
لم أصل بعد إلى طريقة فعلية أستفيد بها من نصيحة أصدقائى الأكثر خبرة فى الحياة حول إعطاء اللحظات المهمة حقها، فأصبح ما يشغلنى هو كيف آخذ معى فى رحلتى التى قد تمتد لعشرين سنة قادمة، مشاعر تجعلنى إنسانة، وليس آلة، كيف أضم فى صفحات حياتى تلك النظرة الحنونة من جدتى قبل أن تفقد بعضا من توازنها الذهنى مع العمر، كيف أسجل الضوء المنبثق من عيون طفلتى الرضيعة حين أفتح باب المنزل فترانى عدت من الخارج.
كيف أحصن نفسى من الندم فى المستقبل على مواقف كان يجب أن أعيشها بشكل أكثر حضورا وأقل تهربا، كيف أهدئ من هذا الضجيج فى رأسى فأنتبه لجمال لحظات لن تتكرر. قالت لى مرة صديقة أن ما تريده لأيام شيخوختها هو أن تمسك ألبومات كثيرة فيها صور مراحل حياتها وقد تخلدت، لذا فهى لا تتحرك دون كاميرتها التى ستذكرها فى المستقبل بأناس أحبتهم وربما غابوا عنها، أو بلحظات قد تكون نسيتها. يقال أن الحياة هى ما يحدث بينما نحن مشغولون عنها، لذا فهى تمر كلمح البصر وتجدنا نتساءل: كيف حدث هذا؟
كاتبة سورية