شكرى مصطفى دخل السجن فى الستينيات وقتها لم يكن مؤدلجا وكان مترددا فى دخول الإخوان، ولم يقم بأى عمل إرهابى، كان يعيش قبل سجنه ظرفا اجتماعيا وليس اقتصاديا صعبا جعله يترك منزل أسرته ويعيش فى المسجد.
فى أواسط الستينيات وفى السجن الحربى وجد معاملة سيئة جدا مع تعذيب لم يتوقعه زاده نقمة على الحياة والمجتمع، من حظه العاثر تلقفه عبده إسماعيل وقدمه إلى شقيقه عبدالفتاح إسماعيل أكبر وأول رمز تكفيرى فى تاريخ مصر الحديث والذى تأثر بكتب سيد قطب والتى كانت وقتها عبارة عن «ملازم تخرج من السجن فى أواخر الخمسينيات».
فى السجن الحربى وفى مثل هذه الظروف نشأت كل أفكار الشاب شكرى مصطفى والذى أصبح تاريخه يمثل دخول مصر الدوامة الكبرى للتكفير، ترى لو أنه عومل معاملة حسنة فى السجن ورأى وجه الدولة الحسن وأعطى محاضرات فى الفكر الصحيح هو ومئات معه ما كنا سمعنا عن مآسى شكرى وجماعته.
ولولا أن الدولة المصرية استيقظت متأخرة وتحالفت مع قادة من الإخوان الذين يكرهون فكر التكفير مثل التلمسانى والهضيبى الأب وغيرهما لمحاصرة الفكرة فى السجون، لامتدت لجميع الإخوان وقتها، وكان كتاب «دعاة لا قضاة» جزءا صغيرا من ثمرة كبيرة أنتجتها النقاشات والجلسات والمحاضرات التى حاصرت الفكرة التى أشعلت السجون وقتها.. ولم يشعر بخطورتها إلا أهل التخصص فى هذا المضمار، ولولا ذلك لكان لدينا آلاف النسخ من شكرى مصطفى.
أما «محمود شفيق» مفجر الكنيسة البطرسية فكان طالبا فى كلية العلوم رأى وقتها الجامعة تموج بالمظاهرات، تأثر بهذه الحماسة الجارفة، قبض عليه لمشاركته فى مظاهرة إخوانية فى حالة صراع سياسى، حكم عليه بالسجن لعامين، رأى فيهما ضياع مستقبله مع معاملة سيئة، كان عقله وقلبه مهيأ للتطرف والتكفير، قابل هناك دعاة التكفير والتفجير، خرج من السجن فذهب إلى سيناء مباشرة وانضم لداعش فتحول من مجرد شاب متعاطف ثائر غير مؤدلج لا ينتمى لأى جماعة إلى انتحارى داعشى.
ترى لو أنه فى هذه الأشهر التى قضاها فى السجن أكمل دراسته، وأعطى محاضرات فى الفكر الصحيح، وأدخلت له الصحف والكتب، أو حضر جلسات ومناقشات لترشيد الفكر، وكان هناك من يحنو عليه وقتها، وكل ذلك لا يخالف قانونا ولا لائحة.
أما أحمد مسعود الذى نفذ هجوم وست مينستر فى بريطانيا 2017 فتم استقطابه داخل السجون البريطانية وكذلك أحمد كوليبالى الذى نفذ هجمات باريس، وكلاهما كان مسجونا جنائيا فى قضايا مخدرات وسرقة وغيرها ثم بلغا أقصى التطرف والتكفير ثم الداعشية.
لقد أتى اللواء/أحمد رأفت «رحمه الله» بعشرات الضباط من الأفرع المختلفة فجلسوا مع أبناء الجماعة الإسلامية فى الزنازين، أكلوا سويا، وكانوا يصلون إلى جوار الآلاف فى فناء السجن دون حراسة، وكانوا يتحدثون إليهم بتلقائية دون عصا غليظة أو كهرباء، ودون عصابة على أعين هؤلاء المعتقلين فنشأت بينهم علاقة إنسانية قوية أذابت كل كراهية، حتى أصبح كل يحكى للآخر عن همومه، وأصبح المحكوم عليه بالإعدام قد يذهب فى زيارة منزلية للعزاء مثلا ويرجع دون أى مشكلة.
لقد قابلت ضابطا كبيرا فى الأمن السياسى فى السجون فى الثمانينيات تعرض لمحنة قضائية كبرى قالى لى: كل المعتقلين الذين كانوا عندى وكنت أعاملهم معاملة حسنة اتصلوا بى يعرضون كل خدماتهم للوقوف اللا محدود إلى جوارى والشهادة معى.
كنت وقتها شابا لم أدرك معنى ما قال إلا بعدها بسنوات، كان سعيدا جدا بهؤلاء الأنصار من مربع كان خصما شريفا لهم فى يوم من الأيام.
اللواء/فؤاد علام خرج بأصدقاء كثيرين كانوا يوما متطرفين، وكان يوما فى قمة السلطة الأمنية ولكن تجاربه فى الحوار معه حولت العداوة إلى صداقة، ثلاث تجارب استراتيجية قدمها الرجل للحوار تجربة الستينيات التى أثمرت «دعاة لا قضاة» وتجربة تحويل فكر جماعة التكفير والهجرة إلى فكر سوى بفضل حواره العميق مع مفكرهم صفوت الزينى الذى التقيته قديما وأفتقده اليوم، وجهود د/الأحمدى أبو النور و أ/محمد على، وتجربة «ندوة الرأى» فى أوائل الثمانينيات التى قادها علماء الأزهر وقدمها باقتدار حلمى البلك.
الحوار الأفقى أفضل من الحوار الرأسى هذه قاعدة مهمة تحتاج لشرح كبير، الحوار من الداخل أفضل من الذى يأتى من الخارج أو من علٍ مثل تجربة صفوت الزينى، الهضيبى، تجربة الجماعة الإسلامية، الحوار يحتاج لبيئة إيجابية موازية.
الحوار المتدرج الهادئ والذى يأتى بنتائج متدرجة أفضل من الحوار العجول، حوار المحاضرات وحدها غير كاف، حوار الجلسات الصغيرة فى العنابر والزنازين أهم وأعمق، كنت أفعل ذلك وأسميها الحلقات وكان يقودها تلاميذى وجربتها عشرات المرات.
الحوار لا يعنى القفز فوق القانون أو تجاوزه بل هو من صلب القانون وروحه، أو إهانة للشهداء لأن كل من سيتم التحاور معهم لم يرتكبوا عنفا ولم يريقوا دما.
كل الدول جربت الحوار وأولها مصر التى كانت رائدة فى ذلك. السعودية فى تجربة المناصحة، أما المغرب فأقامت تجربة «مصالحة» باشتراك الأمن المغربى مع الرابطة المحمدية للعلماء وحقوق الإنسان المغربى، أما ألمانيا فقدمت تجربة «الشراكة الأمنية» شارك فيها الأمن مع ست منظمات إسلامية ألمانية.
هناك آلاف الآن فى السجون وهناك خياران لا ثالث لهما، ترك هؤلاء السجناء دون إصلاح وتطوير فكرى وتأهيل إنسانى وعندها سيتحول السجن إلى معسكر لتأهيل التطرف والتكفير، كما كتب أحد أصدقائى الذين خرجوا من السجون منذ فترة ولم يكن لسجنه أى مبرر «طره مركز تخريج الدواعش، وإما أن تدوس فى هؤلاء السجناء وتحول حياتهم إلى جحيم فيتحول كل واحد منهم إلى قنبلة موقوتة مملوءة بالحقد والكراهية والتكفير الداخلى.
لقد تحاورنا مع إسرائيل التى تحتل جزءا من فلسطين حتى اليوم وتحاورنا مع أمريكا التى احتلت دولتين مسلمتين ظلما وعدوانا، وتحاورنا مع بريطانيا التى احتلت مصر 70 عاما دون أى تعويض، لماذا لا نتحاور مع أبنائنا الذين لم يمارسوا عنفا أو يريقوا دما فهم أولى بذلك.