رسالة إلى نفسى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسالة إلى نفسى

نشر فى : الأربعاء 27 مايو 2020 - 9:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 مايو 2020 - 9:20 م

عزيزتى نفسى، بعد التحية، أود أن أتأكد أنك بخير وأن بحثك عن الأسرار المنسية قد أثمر عن نهايات سعيدة وأنك وجدت حلولا لألغاز مدفونة. كيف هو حالك بعيدا عن الأصدقاء؟ هل تعودت ألا تقتربى من الناس فى الشارع؟ هل تعلمت ألا تصافحى ولا تمدى يديك ولا تفتحى حضنك لأحد؟ عزيزتى نفسى، كم من الدهاليز سوف أكتشف فى مشوارى داخلك؟ ألا تكفى الطرقات المخفية التى مشيتها فى الأسابيع الأخيرة بحثا عن مصادر حنين ومنابع ألم وبدايات سعادة لم أكن أعرف أنها ولدت هنا؟ عزيزتى نفسى، أرسل لك طيا صور شجرة الجهنمية القاهرية ورائحة مسك الليل الدمشقى علها تخفف من التوتر بيننا. ها هى جهنمية القاهرة تنفجر تحت بيتنا والبيت مغلق، ستائره مسدلة وغرف نومه مظلمة. هل اشتقت لها كما اشتقت أنا؟
***
عزيزتى نفسى، بينما أنشغل بالجدال معك، يتفجر الربيع فى العالم بألوانه الزاهية وتتفتح الزهور بأشكالها المختلفة. ينشر أصدقائى صورا عن النباتات والحيوانات التى يصادفونها ويستغربون من جمالها. أتوقف معك عند صور شجرة الجهنمية المصرية بلونها الأحمر الأخاذ، ونأخذ معا نفسا عميقا من الياسمين العراتلى السورى، وهو ما يسمى فى مصر «مسك الليل» بسبب رائحته السكرية التى تدخل إلى أنفى حتى حين أكون داخل البيت فى الليالى الدافئة.
***
عزيزتى نفسى، هل تصالحت معى أخيرا ويمكننا الآن أن نكمل مشوارنا دون عتاب مستمر ومحاولات لعقابى غالبا ما تؤدى إلى زيادة الشرخ بيننا؟ لقد عملت ما بوسعى فى الأسابيع الأخيرة حتى أعمق معرفتى بك دون أن أحكم عليك. لقد أنصت دون مقاطعة واستمعت إلى قصص حكيتِها لى للمرة الأولى بهذا الوضوح. لقد تقبلت اعترافاتك ولم أعاتبك على أخطائك، هل لك الآن أن تغفرى لى أنت الأخرى ونبدأ علاقة ناضجة نضع لها أسسا جديدة وفق ما تعلمناه فى فترة الحجر التى فرضت علينا أن نعيش معا بمعزل عن العالم؟
***
يبدو أن الطبيعة تفرش جسدها أمامى ويبدو أن معظم النباتات تمد للإنسان لسانها هذا العام: «خليك بالبيت» تقول لنا، «لا تقربنى ولا تقطفنى ولا تزعجنى بضوضائك ومخلفات حياتك». عزيزتى نفسى: لا تمدى لى لسانك ودعينا نتفق أننا سوف نخرج لملاقاة العالم قريبا بقلب صاف وبمحبة من اقتنع بعدم جدوى الجفاء.
***
عزيزتى نفسى، ها هى شجرة الجهنمية القاهرية تمد لنا لسانها وهى تبسط أذرعتها الكثيرة على ناصية الشارع الذى عشت فيه سنوات مليئة بالأصدقاء والمناسبات. أراها فى صورة نشرتها إحداهن على الصفحات الزرقاء وأتذكر أننى أنتظر أوراق الجهنمية كل سنة فى هذا الوقت حتى أتصالح مع القاهرة ولو لأيام، حين يطغى اللون الأحمر على كل ما حولى أو هكذا يبدو لى. تمتد أوراقها من أماكن لا أتوقعها فتظهر لى من زاوية كطفل هرب من يد أمه فى الشارع ليطل بوجهه الضاحك على المشاة. اشتقت لشارعى فى القاهرة حين تظلل أجزاء منه الجهنمية. هلا تصالحنا أنا وأنت تحت شجرة الجهنمية؟
***
لحظات وأشم رائحة الياسمين العراتلى، أذكر أننى حين داعبت رائحته أنفى مرة فى القاهرة كاد قلبى أن يتوقف، فمسك الليل كما يسميه المصريون نادر خارج بلاد الشام، ولم أتوقع وجوده أبدا فى القاهرة ذات مساء فى حديقة صديقتى. أرى صوره أيضا فأعود مراهقة فى بيت أسرتى فى دمشق، أحضر لامتحانات آخر السنة والضيق يخنقنى والضجر يأتينى بأشكال مختلفة كل يوم، ثم تدخل رائحة مسك الليل إلى ليلتى فتخدر عقلى وأتوقف عن الدراسة. أريد أن أتصالح معك يا نفسى داخل رائحة الياسمين.
***
عزيزتى نفسى، لقد تعرفت عليك عن قرب فى الفترة الماضية، وها أنا أبلغك أننى استمتعت بالكثير من أحاديثنا، لكنى تضايقت من بعضها أيضا فلقد أجبرتينى على كسر قوالب التى كنت قد بنيتها بجهود كبيرة. ما علينا، سوف أتقبل التغيير وأفتح الحدود حتى تمتد الأفق أمامى وأعترف أن موروثى من القيود ربما يكبل حركتى لكنى تخلصت عبر السنوات من جزء كبير منه. لا أنوى التخلص التام من الموروث لكنى لن أستخدمه كعدسة أرى من خلالها قصص الآخرين. عزيزتى نفسى، لن أدعى أننى تحررت تماما من القيود، ربما لأننى لا أريد التحرر التام فبعض القيود هى مرساتى فى أوقات التخبط. وشجرة الجهنمية تعيدنى إلى حيث أحب، تماما كما تحرك رائحة مسك الليل فى داخلى بقايا مراهقة كانت تنتظر أن تخرج إلى عالم واسع وها هى اليوم مسجونة فى حجر لم تقو على التمرد عليه.
***
أنا ونفسى قررنا أن نتصالح على خلفية حمراء ورائحة سكرية، لن أطلق أحكاما بحقها وأتوقع أن تتوقف هى الأخرى عن محاكمتى. سوف أعرف حدودى وأحترم حدودها، سوف أعطيها حقها فى التمدد وسوف أمضى أوقاتا أطول معها حتى إن عدت إلى حياتى السريعة والمليئة بالوجوه والضحكات والقصص.
***
عزيزتى نفسى، لقد قطعنا معا شوطا من القبول والتسامح فى الأسابيع الأخيرة آمل أن يكون عنوانا لعلاقة جديدة. ولك منى أطيب تحية.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات