يتقلب المؤمن فى حياته كلها بين عبادتين هما «الصبر والشكر».. وفى طريقه إلى الله قد يركب تارة جواد الصبر فى سيره إلى مولاه الحق سبحانه وذلك عندما تنزل به الشدائد.. وهذا الجواد لا يكبو بصاحبه أبدا بل إن هذا الجواد العظيم «الصبر» لا يوصله إلى ربه فحسب.. بل يحمله إلى الإمامة فى الدين.. ألم يقل الله تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ».. وأتم الله النعم على بنى إسرائيل وأحسن إليهم بالحسنى والنصر والفتح لما صبروا لأمر الله«وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الُحسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِى إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا».
والصبر مر كالعلقم.. وقيل «الصبر مر كالصبر» «أى كنبات الصبار».. ولكن لابد للعبد من تجرع كأسه.. فكل إنسان لا ينفك عن أيام أو ساعات أو لحظات مؤلمة وصعبة وشاقة لا ينقذ الإنسان من الانهيار خلالها سوى «الصبر».. وخاصة عند وقوع المصائب والبلايا الكبرى والفتن الماحقة.. مثل موت الابن فى حادث مفاجئ أو موت الزوج فجأة أو هدم البيت أو احتراقه أو كساد تجارته أو سجنه فجأة.
وقد أسمى الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر على المصيبة الكبرى المفاجئة بـ«الصبر عند الصدمة الأولى».. وذلك عندما كانت المرأة تنتحب عند قبر ابنها.. فأشار إليها الرسول (ص) بالصبر وكانت لا تعرفه فقالت له: «إليك عنى فإنك لم تصب بمصيبتى».. فلما عرفته اعتذرت له عن جفوتها فى الحديث معه فقبل عذرها ثم علمها ما أراده منها قائلا لها بلطف ودون عتاب «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
وهذا الصبر أسميه «الصبر قصير المفعول».. وقد لا يوجد هذا النوع من الصبر عند بعض الناس فتفلت منهم مشاعرهم ولا يتحكمون فى ألسنتهم وقد يكفرون بربهم فى هذه اللحظة العصيبة وهم يصيحون: «لماذا يارب قدرت علىَّ هذا» أو يتسخط على ربه.. أو يشك فى حكمة قدره وقضائه.
وقد يكون البعض يملك هذا النوع من الصبر.. ولكنه لا يملك النوع الآخر من الصبر وهو «الصبر طويل المفعول».. فهناك ابتلاءات ومصائب ممتدة لأمد طويل وأسميها مجازا بـ«طويلة المفعول» وقد تستمر سنوات وسنوات.. وقد وجدت أن الشلل وخاصة إذا أصاب الشاب هو أشد أنواع البلاء ممتد المفعول وهو يحتاج إلى صبر مستمر ومتواصل ورضا عن الله وقدره لا يحول ولا يزول ولا يهتز.. وهذا ما أسميه بـ«الصبر ممتد المفعول».. وهو يحتاج إلى إيمان قوى وهدوء أعصاب وسكينة نفس.. وخاصة إذا فقد هذا الشاب عادة التحكم فى البول والبراز وقدرته الجنسية مع عدم قدرته على الحركة والكسب فيضيق صدره اكتئابا وحزنا وينفد صبره تدريجيا كلما طالت به المدة.
وقد يكون لديه الصبر قصير المفعول فى بداية الشلل.. ولكنه لا يملك «ممتد المفعول» الذى يحتاج إلى عزيمة فولاذية.. وكذلك كل الأمراض المزمنة مثل الفشل الكلوى والكبدى وفشل النخاع أو سرطانات الدم.
وقد رأيت عجبا من تقلب هؤلاء بين حالات الصبر والجزع.. ولذا استعاذ الرسول (ص) من «جهد البلاء» وهو البلاء الطويل الممتد الذى يجهد صاحبه ويحتاج لأولى العزمات لتحمله.. وقد قال لنا الصالحون الذين دخلوا السجون من قبلنا: «إن السجن القصير نعمة والسجن الطويل نقمة ولا يصمد أمامه إلا الأفذاذ».
فالسجن القصير تحفظ فيه القرآن والأحاديث وتتعبد فيه كثيرا وتتأمل فيه طويلا وتخلو فيه بربك وتستغفر فيه حقا من ذنبك ويصل العبد فيه إلى مقامات إيمانية قد يزول بعضها بعد خروجه وانشغاله بطلب الكسب.
ولذا يحزن على هذه الأحوال والمقامات التى عاشها فى خلوته بربه ومولاه.. ومن الذين ينطبق عليهم القدرة على الصبر الجميل كل من تحملوا وصبروا ورضوا عن الله سنوات طويلة سواء فى السجن أو المرض أو ما شابههما.. ولذلك جعل الله سيدنا يوسف حجة على السجناء.. وسيدنا أيوب حجة على المرضى فى هذا النوع من الصبر.
وقد خلصت من حياتى وقراءاتى أن حياة الإنسان لا تخلو من بلاء وكرب يحتاج لـ«جواد الصبر» كى تصل به إلى الله.. أو نعمة وسعة وفرحة تحتاج لـ«جواد الشكر» كى يقطع الطريق إلى مولاه الحق.
والفرق بين الصبر والشكر أن الصبر صعب ومر.. والشكر حلو وجميل.. والصبر فيه ألم ومشقة.. والشكر فيه عافية ورحمة.. وكلاهما عبادة موصلة إلى الله وهما أشبه بالفقر والغنى.. فالفقر قدر مؤلم والغنى قدر مسعد.
ولذلك كان الرسول (ص) يقول لأصحابه:«لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية».. وكان أهم دعاء له فى أعظم ليلة فى العام وهى ليلة القدر: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّا».